!~ آخـر مواضيع المنتدى ~!
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   منتديات بنات فلسطين > ★☀二【« الاقـسـام الـعـامـه »】二☀★ > حصريـات بـنات فلٍسطين

هنا ترقد فاطمة

هنــاترقــد فاطمــة ( مدخل ) الشعور بالضياع وفقدان المستقبل ، والتأقلم على الفشل والإنحسار .. أمورٌ تشبهني ، والتحرر من الماضي يتطلب شجاعة لا تثنيها براثن الخوف. وزاويتي

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 02-12-2019
عدي بلال غير متواجد حالياً
اوسمتي
الحظور المميز 
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل : Nov 2018
 فترة الأقامة : 1959 يوم
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 العمر : 52
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم : 4589
 معدل التقييم : عدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond reputeعدي بلال has a reputation beyond repute
بيانات اضافيه [ + ]
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي هنا ترقد فاطمة




هنــاترقــد فاطمــة


( مدخل )

الشعور بالضياع وفقدان المستقبل ، والتأقلم على الفشل والإنحسار .. أمورٌ تشبهني ، والتحرر من الماضي يتطلب شجاعة لا تثنيها براثن الخوف.
وزاويتي التي اعتدت أن أتكور بها كلما تكرر مشهد الظلم أمام عجزي .. لا زالت محفورة في ذاكرتي .


كراية بيضاء على سارية فوق جبل ، يرفعني الماضي ويهوي بي إلى أسفل سافلين .. في استسلام مهين .

وصرخاتي التي ولدت من رحم غربتي قد أجهضت .. والنحيب قد مل سهادي المديد والصمت يغير دواخلي ، ويغتال ذلك الطفل بسكينة حافية .
والكل من حولي ينبذ كينونتي ، يلفظني بعيداً عن عالمه .. يسألني العزلة التي أتقنها وتعرفني .





ikh jvr] th'lm





رد مع اقتباس
قائمة الشكر / الاعجاب
شكر شكر/ت هذه المشاركة
اعجاب اعجب/ت بهذه المشاركة
قديم 02-12-2019   #2


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي




" الفصــل الأول "


أجلس على حافة السلسلة التي بناها جدي قبل سنوات مريرة ، أتجرع فنجان قهوتي وانهزامي
ورائحـة البرتقـال تفوح من حديقـة جارتنـا " أمـ علاء " في هذا الصبـاح الندي ، الذي لم يعكـر صفوه بعد، أبواق السيــارات أو صياح بـائع الغـاز وطقطته على أنابيبـه البـاليـة.

خمول ٌ يتسرب إلى جفوني ليرسمـ وذقني الطويلـة لوحة ً من الفوضويـة واللامبالاة لما يحدث من حولي.

عشر سنوات ٍ قد انقضت وأنا أعيش في منفاي هذا ، الذي فرضته ظروف الحرب في الخليج العربي في السنوات الأخيرة ، وعلى بعد الآف الكيلومترات يقطـن من تبقى من أهلي وإخوتي ، الذين إزدادوا واحدة ً ، ذات غفلة ٍ بعد سفري .. هكذا أخبرتني أمي في إحدى رسائلها ، وبأنهمـ أسموهـا " فاطمـة " .


قالت أمي – في رسـالتهـا تلك - بأنهـا جميلـة جداً كباقي إخوتي ، وبأن والدي قد نقص وزنـه وشـاب شـعره أكثـر فأكثـر ..
تحب أمي أن تبقيني في قلب الحدث ،لتشعرني بأنني على قيـد الحيـاة ، أو ربما لتشعر بوجودي الوهمي بجانبهـا ،وكعادتهـا تطلب مني أن أكتب لهـا رســالة ً أخبرها بحالي وما يجري من حولي ، ولاأذكر أن شيئـاً قد حدث من حولي خلال السنوات الفـائتـة ، غيـر زواج بنت جيراننـا من إبن عمهـا في السعوديـة ، وقد كتبت لأمي عن أحداث ذلك العرس ،الذي لم أذهب إليـه ..! واعتمدت على خيالي الواسـع، الذي بات إحدى صفاتي في هذاالمنفى .. في وطني .. أحقـاً قـد يصبح الوطن هو المنفى ..؟! ربمـا لست ادري..

لا أعلم لم َ أصر جدي على أن يسميني " فارس " ، ربما أراد أن يحقق أحد أحلامـه الضائعـة من خلالي ، أو ربمـا كان يتمنى بأن يولـد هو بهذا الإسمـ .
لازلت أذكر يوم وفـاته جيداً ، فأنا من أخبر والدي بأن جدي لا يتحرك في سريره ..!
بعدهـا تعالت الأصوات والنحيب في المنزل ، وأخذتني أمي إلى بيت عمي ،لكنهـا نسيت أن تأخذ ذاكرتي..!

صورٌ تتلاشى في ذهني رويداً رويداً ، وتبقى صورة "لميــس " باقيـة ٌ في ذهني ، وصورة جدي .!
" لميس " التي لم أرها منذ أكثـر من سنةِ ونيف ، كدت أنسى شكلهـا، أو ربما تناسيت ..

جلست على الأرض ، أمام تلك الطاولـة ، ذات الأرجل القصيرة ، التي تتوسط غرفتي أو بيتي، وبدأت أكتب تلك الرسـالة ..


" والدتيالحبيبـة ... بعـد تقبيـل يديكِ الطـاهرة عن بعـد ، أكتب إليـك ِ كلمـاتي .. جميـع من حولي يقرؤك ِ السلام ، هذا التلفـاز البـالي ، وتلك الكراسي التي رسمت اسمـك ِ على غبارهـا المتراكمـ منذ سنين، وخزانتي ووســادتي ،وبعضـاً من قصاصات الأوراق ، كنت قد حاولت أن أصنـع منهـا طائرة ً ورقيـة ، ومع غروب شمس ذلك النهـار ، أقلعت وطائرتي إلى حيث أنت ِ ، لكـن طائرةأحلامي ، سقطت عند تلك الحدود ..

أنـا – يا أمي – أعيش ليومي ، وماضي ّ الذي تزداد صفحاته في كل يومـ ٍ ..
أعلمكِ يا أمي بأن مستقبلي قـد دفنتـه تحت أقدام " لميـس " .. بعـد أن تقطعـت بي الأسبــاب ،وفقدت حقي في إكمـال شهادتي الجامعيـة ، وأعلنت والدتهـا ثورتهـا ، وغضبها على مشاعري لهـا ..

وحتى لا أطيــل عليـك ِ يا أمي ، فإن جارتنــا " أم علاء " ، قبلت أن أزرع لهـا حديقتهـا ، وسمحت لي بشمـ رائحـة البرتقـال مع هبوب أول نسيمـ للصباح ، تحيتي لك ِ يا أمي .. ولفــاطمـة .. "

أطفأت سيجارتي الثالثـة ، وبخطوات ٍ متثـاقلـة ورغبـة ٍ ميـْتة ، لملمـتُ بقـايـا دراهمـي وبقـايا نفسي ورسـالتي التي تلطخت ببعض قهوتي وأنفـاسي المحترقـة ، وتركت الباب موارباً ، ربما جاء أحد ٌ ذات صدفة وافتقدني .

عبثـاً باءت محاولاتي في إيجـاد حافلـة ٍ تسرق منـي درهمـي وبعضـاً من قوت يومي ، على الرغمـ من ابتسـامتي الزائفـة في وجوه سائقي هذه الحافلات المتعكـرة من الكـد والتعـب منـذ إشراقـة هذا الصبـاح ، من أجـل شراء ما يسكـت بكـاء طفل ٍ قدمـ إلى الحيـاة رغمـاً عنـه ، ليجـد أبويـن قررا أن يشركـاه بفقرهمـا وبؤسهمـا في هذه الدنيـا ، فقط من أجـل استمرار ذريتهمـا ..
يقـال بأن الطفـل يأتي إلى هذه الدنيـا باكيـاً لأنــه يعرف بأنه لا مكـان للفرح على ظهـر هذا الكوكب .


قادتني قدماي إلى السيــر على هذا الرصيـف ، المتهدمـة حجارتــه، وقـد زرعت بعـض الشجيرات – رغمـاً عنهـا – على جنبــاته .. حتى الشجـر يزرع في غيــر مكــانه ، وحـاله يشبـه حالي ..
لو أنـه خـُيـّر في مكـان ولادتـه لأختــار أن يكون في حديقـة ٍ غنـّـاء ، وأن أكون الآن بيـن إخوتي ومـع أمي وفــاطمـة .

الطريـق من بيتـي إلى مكتب البريـد يزداد بعـداً ، ولا زالت قدمــاي تصـران على المضي في طريقي رغمـاً عني، كأنهــا الثورة قـد أعلنتهـا على جسدي النحيل ، كورقـة خريف ٍ ، يعـايرني بـه كـل من رآني ، و" لميس " قالتهـا ذات مسـاء ٍ بأن جسدي يومـا ً مـا سيختفي مثـل أحلامي.

" بقــالة السعــادة لصاحبهـا الحاج أحمـد "

" مطعمـ الإنشراح لصاحبه المعلمـ حســن "

هذه اليـافتـات تضحكنـي وكـأن كلمـة " السعـادة " أو " الإنشراح " ستجلب لأصحـابهـا الحظـ السعيـد ..! وكلا ً أضـاف القـاباً بعدهـا ، وكـأنهـا بطـاقة ٌ شخصيـة ليعرف النـاس بأنهمـ أتقيـاء أو محترفون في عملهم .
يا لسخـافة عقولهمـ ، ويا لعقلي الذي ييكاد أن ينشق عن رأسي، ويغـادرني إلى غيـر رجعـة ٍ .

قدمـاي أصابهمـا الإنهـاك ، و كدت أصـل إلى مكتـب البريـد ، أحمد الله بأن هنـاك شيئـاً قـد أصـل إليه وأنا على قيدالحياة.
هـل أنـا حقـاً على قيــد الحيـاة ..؟! ربمـا ..

لا أعلمـ كنه هذا الشوق الذي اعتراني إلى أمي و " فاطمـة " لحظة رؤيتي لمكتب البريد .
اعتليـت السلم المتهالك ، وابتسـامة ٌ علت محياي عندمـاسألتني هذه المتسولـة أن أرأف بحالهـا وأن أعطيهـا بعض الدراهمـ ، لعلنـي يومـاً سأكون إلى جوارهـا وتعطيني
" لميس " بعضـاً من دراهمهـا ، التي رفضتهـا منـذسنتين ..

وجوه الموظفيـن واجمـة ً تتوارى خلف زجاج ٍ متسخ ٍ من بصمـات المواطنيـن ، الذين يبعثون برسائلهم إلى الطرف الآخر من الدنيـا ،كأنهـا نداءآت استغاثة أو كلمـات تقترب من الاحتضـار شوقـاً .. كـكلمـات أمي ..

وقفت أمام هذا الرجل الأصلـع ذو الشارب الكثيـف والعينيـن الجاحظتيـن وقلت لـه :
- إذا سمحت يا أخ ، أريـد أن أبعث هذه الرسـالة إلى السعوديـة ..
- رسـالة عاديـة أم مستعجلـة ...؟

لم يخطر ببـالي – قبـل الآن – بأن أسـأل نفسي هذا السؤال ..!

هـل كلمـاتي إلى أمي هي كلمـات ٍ مهمـة وتستدعي الوصول على جناح السرعـة ..؟!
أم أنهـا مجرد كلمـات ٍ عقيمـة أمرني بهـا عقلي التعس فكتبتهـا يدي دون فكر ٍ أو أهميـة ..؟!

وحتى لايزداد إنعقـاد حاجبي هذا الرجل الذي يقف أمامي في انتظـار جوابي .. سألتـه :
- ما الفرق بينهمـا ؟
وبكـل سخطه على هذه الدنيـا أجابني :
- الرســالة العـاديـة بـدرهمـ والمستعجلـة بعشرة دراهمـ ..

عشرةدراهمـ ..! يا لهـا من ثروة ٍ لمثل من همـ في حالتي .. لا أعلمـ لم تحضرني " لميـس " الآن ..

( تفضـل يا “فارس " هذه عشرة دراهمـ ، كـلما أملك الآن ، إشتري علبـة سجائر و قهوة ... إن شاء الله سوف تفرج )

أذكر يومها بأنني بكيـت، ولكن أبداً لم أسمح لـ " لميس " بأن ترى تلك العبرات التي حاولت أن أجد لهـا سببـاً آخر غيـر شعوري بالعجز والفقـر ..
قلت لنفسي " لا بد بأن شيئـاً مـا في الهواء قد دخل دون إذن ٍ مني إلى عيني " ..

مـاأصعب أن يبكي رجـل ٌ أمـام أمراة ٍ يعشقهـا .. !
وما أصعب ان ينعقـد لسـاني أمـام " لميـس " ، وأمـام هذا الرجل الواقف أمـامي في انتظـار قراري المصيري ..
أحقـاً أصبحت العشرة دراهمـ قرار مصيري بالنسبـة لي ..؟!

- من فضلك اجعلهـا رسـالة عاديـة...هــاك درهمي.

ختم ٌصغيــر على طرف هذه الرسـالة ، كصغـر عالمي ، كأنـه جواز مرور ٍ أو تأشيرة دخول ٍإلى السعوديـة ..

لا أدري لم َ اجتاحتني الغيـرة من هذه الرسـالة ..! بدرهمـٍ واحد تسـافر إلى أمي .. وأنـا بيني وبيـن تلك التأشيرة بحر ٌ عميـق وصحراء قاحلـة ، وقوانيـن وضعيـة سخيفـة ..
تلفـت حولي فلمـ اجد غير صناديق البريـد مرقمـة ٌ كأنهـا توابيـت تحمـل في داخلهـا أجداث كلمـات ٍ هلكت على يدي كاتبيهـا، وملت من كثرة الانتظـار ..

" الصندوق رقمـ ألف ومـئة وخمسة "

وقفت أمـامـه وأدرت مفتاحي .. ترى هـل
أمطرتني أمي برسـالة ٍ أخرى ..؟! أم أن أحدا ً مـا قد أخطـأ، وبعث برسالتـه إلى صندوق بريدي المهمـل ..؟!

“المرسـل: نزار عبدالحميـد!!


 

رد مع اقتباس
قائمة الشكر / الاعجاب
شكر , شكر/ت هذه المشاركة
اعجاب , اعجب/ت بهذه المشاركة
قديم 02-13-2019   #3


الصورة الرمزية قمر الماما
قمر الماما غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4421
 تاريخ التسجيل :  Jun 2018
 أخر زيارة : منذ 22 ساعات (04:56 AM)
 المشاركات : 89,585 [ + ]
 التقييم :  8812
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Female
 SMS ~
‏-أستغفرك ربي خضوعاً لك💕.
-أستغفرك ربي تعلقاً بك💛 ‏
-أستغفرك ربي طلباً لمغفرتك🍥. ‏
-أستغفرك ربي شوقاً إلى جنتك🌿.
-أستغفرالله العظيم وأتوب إليه💎.

لوني المفضل : Tan
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 3622
شكر (تلقي): 780
اعجاب (اعطاء): 3542
اعجاب (تلقي): 1668
لايعجبني (اعطاء): 0
لايعجبني (تلقي): 9
افتراضي



الفقد ، الغربة ، الوداع ، المصير المجهول

مؤلمة و موجعه

الكتابة،

بتريح النفس

قلم مميز و اُسلوب بيجذب القارئ

شكرا امير الحرف


 

رد مع اقتباس
قديم 02-13-2019   #4


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي



الفصل الثاني

لكل صندوق من هذه الصناديق حكـاية ً ، وفي كل حكـاية ٍ أحداث ٌ كتبتهـا الأيـام والسنون ، وصندوق بريدي إحداها ، لكن أحداثـه ، اختصرهـا الزمان في بضع رسـائل ٍ ، كان المرسـل إليـه فيهـا هو شخص واحد .." فارس عبد الحميد "

العلاقة – بيني وبيـن " نزار " – كانت أكثر من مجرد علاقـة أخ ٍ بأخ .. وتجاوزتـه إلى صداقـة ٍ متفـردة ً بكيانهـا عن باقي أخوتي ، والعـامل المشترك فيهـا هو الشعور بالظلمـ في هذه العـائلـة ، البسيطـة أفكارهـا ، والعميقـة مشاعرهـا ..

ولا زلت أذكر اجتماعاتنـا السريـة على سطح المنزل ، ومحاولاتنـا الطفوليـة لسرقـة اللوز من شجرة الجيران ، التي رمت بثمارهـا على سطح منزلنـا ، كنت أنـا العقل المفكـر ، وكان هو يتسلق الأشجــار ..

هذه هي رسـالته الأولى لي منـذ أكثـر من عام ، ولا زال خط " نزار " يحتفظ بفوضويتـه المعتـادة ، وميلانـه الذي رسمـ تلك الابتسـامة على شفتي ، لحظـة قراءتي لإسمـ المرســل ..

لا أنكـر بأنني عاودت قراءة الإسمـ لأكثــر من مرة ، لكي أتأكـد من أن هذه الرســالة تخصني ، وتخص " نزار " ..

قادتني قدمـاي إلى تلك السلالمـ مرة ً اخرى ، خارج مكتب البريـد ، وبيدي تلك الرسـالة ، أقلبهـا ذات اليميـن وذات الشمـال ، هذه المرة وجدت رضيعهـا على حطـة عربيــة ، تلك التي يضعهـا الرجـل على رأسه ليتفاخر فيهـا بعروبتـه ، وبنخوتـه ، وبكرمــه .. ملقـاة ً وأيـاه على الأرض !

حاولت أن أقتـل تلك المشـاعر الإنسـانيـة في داخلي من هذا المشهـد ، وأكتفي بتفسير المشهـد على أنـه مجرد متسولة ٍ ورضيعهــا ، وأطلقت العنـان لقدمي تسير إلى حيث قـُـدِرَ لهـا أن تسيــر ، واكتفيـت بفض تلك الرســالة وقراءة ما كتبـه نزار " .

"أخي الحبيب " فارس " بعد التحيــة ، والاطمئنـان عن صحتـك ، أكتب لك رسالتي هذه راجيـاً أن تصلك في الموعـد المنـاسب ، ومرفقـاً معهـا في اسفــل الرســالة ، رقمـ المعاملـة لدى السفارة السعوديـة في العاصمـة " عمان " ، ورقم الحوالـة البنكيـة ، لكي تشتري تذكرة الطيران وما يلزمـك في هذه الرحلــة ، أرجو منـك يا أخي الذهـاب إلى السفارة ووضع ختمـ الدخول إلى الأراضي السعوديـة ، ولا تنسى جواز سفرك .. مبروك يا أخي ، عسى الله أن يجمـع شملنـا على خيــر .. مرفق مع الرســالة صورة لـ " فاطمـة " ..

أخوك المخلص / نزار عبد الحميد .. " ..

الطقس شديد الحرارة ، وقطرة العرق تنحدر من جبيني إلى إطار نظارتي ، ثم تنحدر على العدسـة . وغبش ٌ شــامل يعكـر ما أراه ، وما أتوقعـه ، وما أتذكره ، وشريط العمـر يمـر أمامي ، أسمــع صوت خطواتي على الأسفلت لأول مرة ، أمشي بإتجـاه الأمــام لأول مرة ، مشيـة ً عـادية ، ربمـا تبدو عاديـة ، ورائي العـالم وأمــامي عالمي .

أفكـار ٌ تأخذني إلى ما وراء كلمـات " نزار " ، وتتوالى الصور أمــامي لبيتنــا الذي تركتـه قبــل عشر سنوات ٍ ..، أرى خلفــه ابتســامة أمي ، ولحيــة أبي .
تعابير وجهي تتغيــر في كل دقيقـة ٍ الف مرة ، ورمـاد سيجارتي يتطاير في الهواء ، كأيــام عمري الفـائتـة .. لا أدري لم َبدأت أشعــر الآن بسنوات العمـر .. ؟! ولم َ تتسارع خطواتي إلى بيتي أو بيت العـائلة كمـا تحب أن تسميـه " أم علاء " ..؟!

والشعور بالخوف يتساوى مع السعـادة والحنين للسفــر خارج الوطن .
أي تنــاقض ٍ ذاك الذي يعتريني الآن ، وأي رغبـة ٍ تجتاحني للضحك والبكــاء في آن واحد .
المسـافة بيـن مكتب البريد وبيتي اصبحت أبعـد فأبعـد ، والأشجـار تطالعني بنظرات ٍ غيـر مفهومـة .. وكـل ما في يدي وعقلي لا يسـاوي غير بضـع دراهمـ ٍ وأيـام ٍ طويلــة ، ورســالة " نزار " وصورة " فــاطمـة " ..

فضول بدأ يزحف إلى داخلي إلى رؤيـة ما كتب خلف تلك الصورة ، التي لم أطالعهـا بعـد ، ولم أشعـر إلا ّ بهـا في الوقت ذاته ، فقرأت
" صورة فاطمـة وعمرهـا ثمان سنوات " ..

“فاطمـة " عينـان بنيتـان وشعر ٌ يميـل إلى الأشقر وابتسـامة بريئـة ، والمسـافة بيني وبينهـا لا تتجاوز أصابع يدي وتلك الحدود الموضوعـة بين لسـان ٍ عربي وآخر ، وأختـام ٍ وجوازات سفــر.

السـاعة تشير إلى الثانيـة عشر ظهراً والحرارة في الخارج تتنـاسب طرديـاً مع أشواقي التعبـة إلى الوصول إلى بيتي ومعانقـة جواز سفري ، وأوراقي الصفراء كاصفرار أوراق الشجر هذه ..
ها هي " أم علاء " تقومـ بنشـر غسيلهـا على سطح بيتي بقامتهـا النحيلـة ، وعمرهـا الستيني .. يعجبني كفاح " أم علاء " ، بعـد وفـاة زوجهـا ورحيـل ولدهـا إلى الخارج ، كغيـره من الشبـاب في حالة هروب ٍ إجباري من الوطن وانعدام فرص العمـل في وطني ، الجميـع يهرب من الوطن ، والوطن مسلوب الإرادة ، مغلوب ٌ على أمره ، ويدفـع بأولاده إلى الخارج رغمـاً عنـه حتى لا يفقدوا حقهمـ في الأمـل ، والحلمـ ، والحيــاة ..
" أم علاء " هي الوطن ..

- دعيني أســاعدك يا “أم علاء “.

- الله يرضى عليـك يا ولدي يا "فارس" ويرجعـك سالماً إلى أهلك .. قل آميـن يا ولد.
- آميــن.

يبدو بأن الله قـد استجاب لدعوات "أم علاء" هذه المرة ، فمنذ سنوات ٍ وهذه الدعوة لا تفارق لسانهـا كلمـا قرأت ملامح الحزن في وجهي وأنـا أتحدث إليهـا... من قــال بأن "أم علاء" لا تعرف القراءة... ؟!

أعود إلى غرفتي ، إلى سريري ، ألقي بجسدي التعب من السير طيلـة النهـار ، وأحملق في سماء غرفتي وعالمي ، صور ٌ كثيرة ترتسمـ على سقف الغرفـة لأنــاس ٍ مروا في حياتي ، بعضهمـ لا زال عالقـاً في ذاكرتي ، والآخـر قد توارى تحت التراب ، والنعـاس يزحف إلى مقلتي ببطء ٍ شديد ٍ ، وخلايـا عقلي تتزعمـ انقلاب على عقلي وفكري ، وتطالب بأجـازة من التفكيــر في ما مضى ومـا هو آت .. فأستسلم لنومـ ٍ عميـق ، الآن عرفت معنى أن ينـام المرء ملء جفونـه عن شواردها .


اليوم الثاني ..

هذه المرة كانت المسـافة أطول من أن تستحملهـا قدمـاي ، فاستوقفت سيارة " تاكسي " – ربمـا هذه هي المرة الأولى التي أسمح لسائق أن يسلبني دراهمي – وتوجهت إلى حيث أوصاني " نزار " في رسـالته ، التي بعث بهـا إلي ّ وزرع بداخلي بذرة الأمـل لرؤية أمي ورؤيـة " فاطمة " ..
-السفارة السعوديـة لو سمحت.

- تفضـل.


الخوف من القـادم يحتـل مساحة ً كبيرة في عقلي وقلبي ، وتعبر عنه رعشـة يدي وسيجارتي بحركة ٍ لا إراديـة ، والسـائق يسابق الزمـن حتى يوصلني ، ويقذف بي من هذا الباب ، وينتزع دراهمي ، حتى يتمكـن من اصطيـاد راكب ٍ آخر ..

ساريـة العلمـ تشير إلى تلك السفارة ، السفارة السعوديـة ، وتعيـد إلى ذاكرتي سنوات ٍ مضت ، وأيـام ٍ قضيت بعضهـا أمـام هذا البـاب الأسود وأسواره ، وحراسـه ومراجعيـه وموظفيـه ..

البعض اتخذ من جوانب هذا السور مصدر رزق ٍ لـه ، وعلا صوتـه بكلمـات ٍ كثيرة .. " ببسي ، ساندوتش ، مناديل ، اقلام ، دمغات .. " وغيرهـا من الكلمـات الكثيرة ، التي تشعرك بالجوع أحيـاناً ، وبدنو موعـد الرحيـل عن الوطن والمنفى أحياناً أخرى ...!

طابور ٌ من النـاس ، رجالاً ونسـاء ً ، اصطفوا امـام تلك البوابـة ، كل ٌ يحمـل بداخلـه حلمـه وبعضـاً من أمنيــاته ، لينتهي بهمـ الأمــر إلى ذلك الموظف القـابع على كرسيـه خلف تلك الشبابيــك .. ويصيـح بالموجودين :

- قفوا بالطابور يا جمـاعة ، الله يرضى عليكمـ ، الكـل سوف تُنهى معاملته ، لا تتدافعوا وإلا ّ .. !

المشهـد ذاته يعيـد نفسـه بعـد هذه السنوات ، يوم أن أبلغني والدي بأن ظروف الحرب تحول دون رجوعي ، وبأنني قد فقدت حق الإقــامة بيـنهمـ .. يومهـا لم اكن أعي جيدا ً معنى كلمـاته ، بـل ربمـا فرحت بداخلي بالحريــة الزائفـة التي سأحصــل عليهـا ، ولمـ أفهمـ - يومهـا – لم َ بكت أمي ...!

- تفضـل هذا رقمـ المعاملـة وجواز السفر.

بعد دقيقة أو دقيقتين .. لست أدري ..

- ارجع بعد ساعتيـن لتستلمـ جواز سفرك...

- شكرا ً.

خرجت من الطابور بخاصية القصور الذاتي لتدافـع الجماهيــر من خلفي وأمـامي وعلى جانبي ّ ، لا أدري لما شعرت بالسعادة في هذه اللحظة ، على الرغمـ من فقداني بطاقتي الشخصية وسط هذا الزحام ..

هذا المنظـر يتكرر في أنحاء كثيرة من وطني .. في المخـابز ، ومطاعم الفول ، ومواقف الحافلات ، وغيرهـا .. والقاسمـ المشترك في نوعيـة البشــر هنـا وهناك هو فقر الحـال ، والركض خلف رغيف خبز ٍ يرتفـع سعره بعد كل خطاب ٍ لقـائد البلاد ...!
أحاول أن أخرج بجسدي وما تبقى من وعي عقلي وبقايا دراهمي خارج هذا الباب الأسود ، والزمـن يتوقف أمامي ..

هذا الشـارع لا زال كما هو لم تتغيــر أرصفته ولم تتغيـر تلك الدعوات - التي ابتهـل بهـا اصحابها إلى الله – لتتمـ الموافقـة على طلب زيــارة ٍ أو عقـد عمـل ٍ ينقذ أحلامهـم من الوأد ِ تحت ركـام الواقـع المرير الذي فرضتـه ظروف الوطن ..

وعلى ذلك المقهى المقـابل للسفارة ، جلست احمـل بيدي سيجارتي وفنجان قهوتي ، وأطالع تذكرة السفر .

يسـافر عقلي إلى الماضي البعيـد ، لمنزل أمي ، هنــاك كانت طفولتي ، وهنـاك مارست الكتـابة على أوراقي لأول مرة ..
غداً – وفي تمـام السـاعة التـاسعة صباحا ً – أكون على تلك الطـائرة ، التي كنت أراقبهـا من على سطح بيتنـا أو بيتي ..وطائرتي هذه المرة ليست ورقيـة ، وحدودي أبعـد من ختمـ جواز سفري ، وأبعـد من حبي لـ " لميـس " ..، حدودي لن تتوقف عنـد جملة " ممنوع من السفر " ، حدودي هي عنـاق أبي وقهوة امي ووجــه " فــاطمـة " ..

أفيـق من شرودي مع اقتراب موعـد تسلمــ جواز سفري ، وأطوي الأرض تحت قدمـاي ، إلى الباب الأسود ، وبعـد دقـائق ٍ معدودة ،، أسمـع ذلك الرجـل ، الواقف خلف ذلك الشبـاك ، ينـادي باسمي ..
- فارس عبد الحميـد " تفضل جواز سفرك .. لا تدع الرحلـة تفوتـك يا رجل .." وابتسمـ ..

لا أعلمـ كيف ارتسمت على شفتي تلك الابتسـامة ، التي لم ترتسم منذ أن أبلغني والدي بأن الحرب قد سلبت مني حق العودة إليهم .


 
التعديل الأخير تم بواسطة عدي بلال ; 02-13-2019 الساعة 08:50 AM

رد مع اقتباس
قائمة الشكر / الاعجاب
شكر شكر/ت هذه المشاركة
اعجاب اعجب/ت بهذه المشاركة
قديم 02-13-2019   #5


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي



" الفصــل الثــالث "

يوم السفـر ..

الســـاعة الســابعة صباحـاً ..



مضى أكثر من ساعـة ٍ وأنـا أتامـل في أوراقي وحقيبة سفري ، التي لم تخلُ من
الفوضويـة وبعض الملابس غير المكويـة ، ولم يبق على رحلة العودة إلا ّ ساعتين ، ربما أقـل ، أطالع بيتي ، أقبـّل وسادتي ، وطاولتي ، وحائط غرفتي ..

مشاعر مضطربة تربطني بهذا المكان ، والوقت يمر سريعـاً للمرة الأولى ، وللمرة الاخيرة أودع بيتي وبيت عائلتي وأودع " أم علاء " كأنني أودع الوطن ..!

- انتبه لنفسك يا ولد .. فاهمـ ..؟ ولا تبكِ أمام أي أحد .. وخصوصـاً أمـك ..

قالت " أم علاء " هذه الجملـة وعينـاها تفيض بدمـع غزير على وجنتيهـا .. ووضعت في يدي ورقـة ً وقالت :

- اقرأها في الطائرة .. هذه الورقة من " لميس " .

أقف على الطريق العـام ، وبيوت الحي تطـل برأسهـا أمامي تودعني وأودعهـا بنظرات ٍ صامتة ، واجلة .. وبيت " لميس " ينهـار في داخلي وكيـاني ، أكـاد أسمـع ضحكاتهـا وبكاءهـا من مكـاني ، وصور ٌ تتوالى في ذاكرتي ..

- إلى أين يا رجل ..؟
- إلى المطـار لو سمحت ..
- تفضـل ..
- شكراً ..

في إحدى الليالي دار بيني وبين صديقي " معتصمـ " حوار ٌ حول الوضع – المؤسف – الذي نعيشه هنـا ، وأذكر يومهـا بأنني قد لمت الوطن بكلمـاتي ، وأخبرتــه بأن الوطن ليس رحيمـاً بأولاده ..

- قــل لي يا " معتصم " .. ماذا قدمـ لنــا الوطـن حتى يستحق منــّا أن نحبـه او نبقى فيـه أو حتى أن نضحي لأجلـه ..؟!

- يا " فارس " .. الوطـن هو هذه الارض التي تجلس عليها ، وهذه السمـاء التي تظـلك وتسقيـك ، الوطـن هو حكـاية رواهـا لنـا أجدادنـا وسنرويهـا – يومـاً – لأولادنـا ، لا مقايضة مع الوطن يا صديقي .

- يا شاب .. وصلنـا إلى المطـار .. اكمـل نومـك في الطـائرة ..
قالهـا – ذلك السائق – وهو يبتسمـ ..
- سامحني فلم أنمـ ليلـة البارحـة جيداً .. تفضل هاك دنانيرك العشرة .

هـا هو المطـار .. " مطار الملكة عليـاء " ..

دخلت إلى صالة المطـار ، شاشات عملاقـة ، وأزمـان كثيرة ، تتغيــر بيـن الفينـة والأخرى ، وجمـع ٌ غفيــر من النـاس ينتشرون في أرجـاء الصـالة ، البعض منهمـ يضحك ، والآخر يواري دموعـه ويتلعثمـ في الكلام ، وأنـا أحمل حقيبتي ، وجواز سفري ، وعشر سنوات ٍ خلفي ، والغموض ينتظـر أمـامي .. أطفيء سيجارتي لحظة اقترابي من هذا الموظف ..

- تفضـل يا أخي .. لا أحمـل معي غير حقيبتي هذه ..

" النداء الاخير على الرحلـة رقم الف ومائة وسبعون والمتجه إلى مدينة الريـاض .. على السادة الركاب التوجه إلى البوابة رقم سبعة استعداداً لصعود الطائرة .. وشكراً "

شعور ٌ بالقلق والترقب يتسرب إلى داخلي ، ونظراتي تمشط أرض الصـالة ، أبحث عن لا شيء ، وأراقب تلك العجوز الواقفة بجانبي .. حاولت ان أتظـاهر بالثقـة ممـا أفعـل ، أو أحاول أن أفعـل .. وأزمـّل هذا الخوف الذي يعتريني ويختبيء تحت جفوني ..

- تفضل يا أخي .. البوابة من هذا الإتجاه ..
- شكراً لك ..

خطواتي الأخيرة على أرض المطار ، وأرض وطني ، تتنـاقص مع كل خطوة ٍ أخطوهـا ، أكــاد أسمـع احتضارهـا تحت قدمي ، وأسمـع صوتـاً بداخلي يحثني على الأستمرار في المشي ، صورة " لميس " خلفي ، وصورة أمي و" فاطمة " أمامي .. وكلمـات " نزار " تعلو في مسمعي أكثـر فأكثـر ..

أشعر بخدر ٍ في يدي ، وفي قدمي ، وفي عقلي .. أين الطريق ؟!
توقفت .. تسمرت في مكاني .. الباب أمامي ، والنـاس يدخلون من خلاله بلا خوف ٍ ، يدوسون أرض المطـار بأقدامهمـ ، لا يبالون ..
تنحيت عن الطريق ، ووضعت حقيبتي بجانب ذلك البـاب ، جلست ، ودفنت رأسي بين كـفي يدي ، أنفــاسي تتسارع ..وكل من حولي ينظرون إلى إنهياري ، إلى خوفي ..

- مابك يا بني .. هل أنت بخير..؟؟ قل يا بني ، مثل أمك أنا ..

إنها نفس العجوز ، جلست بجانبي ، حاولت إختراق عشر سنوات ٍ مضت بكلمـاتهـا البسيطة ..
- لا شيء .. أرجوك ِ دعيني وشأني ، والحقي بطائرتـك قبل فوات الاوان ..

وضعت حقيبتهـا الصغيرة على الارض وقالت :

- إما أن تسافر معي ، أو لا أسافر .. ما رأيك ؟ هل ترضى لعجوز مثل أمك ، بأن تسافر وحدها ، وليس معها ابن يساعدهـا ..؟!

لا أعلمـ ما السر الكامن وراء كلمـات هذه العجوز ، والذي جعلني أمسك بيدها ونعبـر هذه البوابة .. البوابة رقم سبعة ..

عند مدخل الطائرة .. افترقنـا وكـل ٌ إلى كرسيـه الذي اختاره لـه القدر ، لكنني أدركت بأن حيلتهـا قد نجحت لحظة سماعي لكلمـات ذلك الشاب أمامها .. " من هنـا يا أمي " فابتسمت لهـا ، ابتسامة الشكر والرضى عن ما فعلته على أرض المطار .

- تفضل يا سيدي هذا مقعدك ..
- شكرا ً ..

الركاب من حولي يبتسمون ويتهامسون ، لا أعلم بمـا يتهامسون ..! وهذه الطفلة بجانبي تبتسمـ في وجهي وكأنهـا تنتظر مني أن أبادلهـا الإبتسـام ، جلست في مقعدي ، أراقب من خلال النافذة ماضي ّ ، وشريط عمري أراه من خلال هذه النافذة ..
إشــارة ربط الأحزمـة تضيء أمـامي ، والنـاس من حولي يقرأون قرآنهمـ وإنجيلهمـ ، وانـا أطالع بيدي صورة " فاطمـة " .

ها هو الحلم يتحقق ، وأنا وأحلامي وطائرتي نحلق في السمـاء ، نتجاوز تلك الحدود العنيدة ، ولطالما انتظـرت أن تفك هذه القيود ، أن ترفــع تلك الستــارة السوداء من حياتي ، ودعوات " أم علاء " ترن في مسمعي .. ترددت كثيــراً قبـل أن أفتـح تلك الورقـة من " لميس " ، لكـن رغبتي في قرآءة آخر سطور ماضي تزداد مـع كـل دقيقـة ٍ تمر ، أكثـر فـأكثـر ..


" ( فارس ) .. اقرأ خطـابي هذا ولا تسـل لم َ كان هذا الخطــاب ..؟!

منـذ أن رأيتـك لأول مرة ٍ وأنـا أقرأ ذلك الحزن في عينيـك ، عشقت هذا الحزن ، عشقت كلمـاتك التي كنت ترددهـا في كـل لقـاء يجمعنـا معـاً ، حتى وإن كانت مجرد دقائق ٍ نسرقهـا من الزمـان ، كنت ولا زلت أسيرة كلمـاتك وصمتـك ، إني أعشق
صمتـك يا ( فارس ) ..!
دعوت الله لك في كـل ليلة ٍ أن تعود إلى أهلك ، ولم أقـل كلمـة آميــن ولا مرة ..! لم أستطـع .. كنت أرى انهيارك يزداد يومـاً بعـد يوم ٍ ، وأراقب القدر وقد علت أمواجـه أمـامك وأنت مسلوب الإرادة ، ويداي أقصـر من أن تصلك ..
لا تعلمـ كم من الليالي سهرتهـا وأنـا أغالب دمعي ، وأرسم تلك الابتسامة الكـاذبة أمام وجوه من حولي ، حاولت نسيـانك ألف مرة ٍ ، لكنني فشلت ..
" أحبــك " هـاقد قلتهـا لك .. لا .. بـل قلبي هو من قالهـا .. بالامـس خانتني عينـاي ، بكيت أمـام الجميـع ، ما عدت أبـالي .. عبراتي أعلنت الثورة على مشاعري المقهورة في داخلي .. تمنيـت أن أكسـر قيودي ، وأرمي بنفسي في أحضانـك .. راحل ٌ انت يا ( فارس) ومعـك قلبي ، راحل ٌ .. ودعواتي تلاحقـك أينمـا ذهبت ... "

لا أعلمـ لم َ تجمد الدمـع في عيني وانـا أقرأ تلك الكلمـات ، لكنني لم أستطـع أبداً أن أمنـع زفراتي أن تحرق هذه الورقـة ..

- من هذه التي في الصورة يا عمـو ..؟

كلمـات هذه الطفلـة بجانبي ، جعلتني أغيـر تعـابير وجهي وأنـا أجيبهـا على سؤالهـا
- هذه ( فاطمـة ) .. ما رأيـك ..؟ أهي جميلـة ؟
أومأت برأسهـا وابتسمت لي ..
- وأنت ِ .. ما اسمـك ِ ؟!
- اسمي " فاطمـة " ..
- إذا ً فانت ِ أختي الصغيرة يا " فاطمـة " ..
علت ضحكاتهـا البريئـة في أرجاء الطـائرة ، واختلطت بكلمـات ( كابتن ) الطـائرة ..

" أيهـا الســادة أرجو الجلوس في أماكنكمـ وربط الاحزمـة إستعداداً للهبوط وشكـرا ً " ..


هـا هي مدينة الرياض ، بعمرانهـا الواسـع ، وفخامـة مبانيهـا ، هذا البـرج أعرفـه ، الزمـان يعود إلى الوراء بسرعـة ٍ غريبـة ، وماهي إلا ّ دقـائق وتخطـو قدمـاي على أرضهـا ، أكـاد أرى وجـه أمي من خلال النــافذة ِ ، وهذه الصغيـرة التي لم تراهـا
عينـاي بعـد ، ووقــار أبي .. لحظــات ٍ سريعــة ٍ مرت قبـل أن تلامـس عجلات هذه الطـائرة أرض المطــار .. ودقـات قلبي تتســارع في داخلي ، والمـاضي تتلاشى صوره أمـامي شيئـاً فشيئـاً ، وسنوات الإنتظــار تحتضـر ، والأمـل يصـر أن يولـد من رحم دنيـاي ..

" أيهـا السـادة الركـاب ، حمداً لله على سلامتـكمـ ، ونشكركمـ على اختيـاركمـ للخطوط الجويـة الأردنيـة ، على أمـل أن نراكمـ في رحلات قادمـة بإذن الله " ..

معادلـة الخوف تصـر على البقـاء ، وتحاول اغتيـال بذرة الأمـل في داخلي ، والشوق يعتصرني .. الركـاب من حولي يتنـاقصون رويداً رويداً ، وأصواتهمـ تبتعـد عن مسمعي.. وأنـا عالق ٌ في هذا الكرسي .. ونظرات تلك المضيفـة ترمقني من بعيـد وتبتسمـ .. لا بــد من كسـر هذا الحـاجز ، حاجز الخوف .
أحرك قدمـي وأتبعـها بالاخرى ، خطواتي ثقيلـة .. لا يهمـ ..

- مـع السلامـة
- أشكرك أيتهـا المضيفـة .. مع السلامـة ..

حاولت ان أتجاهـل نظرات الاستغراب في وجههـا ، وأتابـع الخطى إلى تلك السلالمـ ، إلى تلك الصــالة الكبيـرة .. أزمــان ٌ وأسمـاء ٌ كثيـرة ، وصور ٌ تلوح في ذاكرتي وأنـا أبحث في وجوه النـاس عن " نزار " ..

يا إلهي ..! هذا هو " نزار " يرفـع يده من بعيــد ، وخلفـه أمي ..

أشعر باحتضـار الخوف في داخلي ، وبتسـارع دقات قلبي وخطواتي ، ووجه " نزار " يزداد وضوحـاً مـع كل خطوة ٍ أخطوهـا نحوه ، وعبرات أمي أكـاد أراها ..
ألقيـت بحقيبتي على الأرض وتسمرت مكاني ..

- حمداً لله على سلامتـك يا ( فارس ) .. نورت الريــاض كلهـا يا أخي ..

حدقت في وجـه " نزار " طويلا ً ، بحثت عن " نزار " الذي أعرفـه ، ابن الرابعـة عشر ، رأيت ابتسـامته ، وضممتـه إلى صدري دون ان أتكلمـ .. ، رأيت وجه أمي ، رأيت عيني أمي ، رأيت كفي ّ أمي ..

تنحى " نزار " من أمامي ، ووقفت أمـامهـا .. ألقيت برأسي في حضن أمي ..

- آآه يا أمي .. آآه ٍ يا أمي ..

قلت في نفسي " سامحيني يا " أم علاء " لكنني بكيت .


 

رد مع اقتباس
قديم 02-13-2019   #6


الصورة الرمزية قمر الماما
قمر الماما غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4421
 تاريخ التسجيل :  Jun 2018
 أخر زيارة : منذ 22 ساعات (04:56 AM)
 المشاركات : 89,585 [ + ]
 التقييم :  8812
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Female
 SMS ~
‏-أستغفرك ربي خضوعاً لك💕.
-أستغفرك ربي تعلقاً بك💛 ‏
-أستغفرك ربي طلباً لمغفرتك🍥. ‏
-أستغفرك ربي شوقاً إلى جنتك🌿.
-أستغفرالله العظيم وأتوب إليه💎.

لوني المفضل : Tan
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 3622
شكر (تلقي): 780
اعجاب (اعطاء): 3542
اعجاب (تلقي): 1668
لايعجبني (اعطاء): 0
لايعجبني (تلقي): 9
افتراضي



متابعة


 

رد مع اقتباس
قديم 02-14-2019   #7


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي



الفصل الرابع


رؤية بوابة المطار تبعث في نفسي رغبة ً في التنفس من جديد ، وسيارة " نزار " تشي بأن وضعه المادي متوسط ، والجلوس بجانب والدتي يشعرني بالطمأنينة التي أنشدها منذ زمن .

- أشعر بأنني سائقٌ لعائلة ٍ ثرية ، يجلسون في الكرسي الخلفي ، فهل ستدفعين أجرة مجزية يا سيدتي ؟

كلمات " نزار " كانت تنم عن سعادة ٍ حقيقية ، أراها في عينيه من خلال المرآة ، وأسمعها في نبرة صوته ، أصبح رجلاً يعتمد عليه .
أسئلة ٌ كثيرة تترى إلى ذهني عن كل هذه المعالم التي أراها من حولي ، وعن أحوال من تركتهم خلفي كل هذه السنوات ، ونظرات أمي تخترقني وشفتاها تتمتم بالحمد والشكر منذ أن رأتني أمامها في المطار .
كنت أسمع " نزار " وهو يحدثني عن ذلك الجسر الذي لم يكتمل منذ سنتين ، وعن هذا المركز التجاري الضخم ، يخبرني عن جمال المنظر في الدور العلوي ، وعن اطلالته على المدينة كلها ، والمدينة لا تعني لي سوى سماع صوته الآن ، وضم بقية اخوتي إلى صدري ، ومعانقة أبي .
دست أمي يدها في حقيبتها ، وأخرجت منها صورة أخي الأكبر ، وقالت لي في حزنٍ

- هذه صورة أخيك قبل أسبوع ، عمله يضطره إلى السفر الدائم أعانه الله .

تفرست في وجهه ، كان قد زاد وزنه قليلاً ، لكنه احتفظ بابتسامته المعهودة قبل التقاط أي صورة ٍ له ، كنت دائماً أرى في عينيه إصراره على الوصول إلى أعلى المراتب ، والآن أرى الإصرار ذاته في هذه الصورة بشكل ٍ جلي .

- كان بوده أن يتنظر ليراك ، لكن ظروف عمله حالت دون ذلك .. شهران وستلتقيان بإذن الله . .. قالت جملتها ، وربتت على كتفي في حنان .

يعتقد الغريب بأن الزمان قد توقف عن الدوران في غيابه ، يعتقد بأن الصغير لم يكبر ، والأب لا يشيخ ، أحاول في اجتهادٍ أن أُخفي دهشتي لابيضاض بعض خصلات شعر أمي ، وعينا أمي كواحة ٍ في بيداء قاحلةٍ ، وأنا مسافرٌ أنهكه الظمأ .

كنت ألمح نظرات " نزار " وهو يسترق النظر إلي في مرآته ، وعيناه تنطق بالشوق والاستغراب في الوقت ذاته ، شعرت للحظات ٍ بأن خلف نظرته حزن ٌ أو أمرٌ عظيم .
هذا الشارع أعرفه ، ويعرفني ، كنت قد مشيت فيه كثيراً ، وفيه أيضاً قررت السفر إلى الأردن .
- " فيصل " يا ولدي ينتظرنا في البيت ، مسكين ، لم يجد بعد المهنة المناسبة لشهادته ، الله يعينه على مديره .
اكتفيت بهز رأسي على جملة أمي ، وأطرقت رأسي إلى الأرض ..
كان " فيصل " يحلم بالسفر إلى " امريكا " ، تخرج من الثانوية قبلي بعام ، وأذكر بأنه غاب عن البيت ثلاث ليالٍ بموجها العاتي ، بعد أن صفعه والدي على وجهه ، ورفض فكرة سفره إلى هناك .
لكل إنسانٍ منّا هدفه في هذه الحياة ، طريق ٌ يختاره لمستقبله ، بيد أن طريق " فيصل " تقاطع في احتدام مع رغبة والدي الديكتاتورية .
رفض " فيصل " للدراسة في الأردن كان غامضاً ، وبقي كذلك إلى يومنا هذا ، وأخي الأكبر يعلم أمراً نجهله جميعاً .
- وصلنا يا ولدي .. بيتنا هذا أكبر وأجمل .
أدار " نزار " المفتاح في الباب ، وأدخل حقيبتي إلى الداخل ، والتفت إلي ..
- سأراك في المساء ، لدي بعض الأعمال أقوم بها ..
- حماك الله .. اتفقنا مع السلامة .
وقفت أمام الباب للحظةٍ ، وتركت لأمي مهمة تبليغ أهل البيت بقدومي ، أردت ان تعبر عن فرحتها بطريقتها الخاصة ، زغاريد أمي اشتاق لسماعها منذ زمن ، منذ ان تزوج أخي ، ورقص أبي فرحاً للمرة الأولى .
- هل ستبقى هنا كثيراً ؟
تلقفني " فيصل " بحضن ٍ دافىء ، ورأيتني أضمه إلى صدري كثيراً ..
- أبوك في الداخل ، ينتظرك .. هيا بنا .
ممر طويل ٌ عُلقت على جدرانه لوحة لـ ( القدس ) ، وأخرى لـ قبضةٍ كُتِب أسفلها كلمة ً واحدة " سنعود " ..
- هذا " فارس " يا أبا " كرم " ، وصل ..
رأيت والدي جالساً على كرسيه الذي يسكنه منذ سنين ، وقد اعتنق الصمت ، وانشغل في حشو غليونه ، كأنه يهيأ نفسه لما هو قادم ، وقفت أمامه مباشرة ، وتسمرت نظراتي إلى شعره الأبيض ، رددت في نفسي " شخت يا أبي " .. لم يرفع عينيه في عيني ، وأشار بيده إلي ان أقعد هنا بجانبي ، فقعدت .
- أنا فصلت إقامتك عنا رغماً عني .. ولم أكن أملك خياراً آخر ، فإمـا أن نغادر جميعاً وإمـا ...
جلست أسفل أقدامه دونما استئذانٍ ، ونظرت إلى عينيه مباشرةً " لا تكمل يا أبي " ..
وقفنا في تلك اللحظة سوياً ، وضممته إلى صدري ، وشعور اللوم - الذي استقر في داخلي لسنواتٍ طوال نحوه - تلاشى في لحظات .
- مرحبا ..
جاء ذلك الصوت الطفولي خلفي ، ليوقظني من دهشة اللقاء ووالدي .. صوتٌ يخبرني بأن هناك من لا تعرفه ويعرفك .. صوت ٌ يدعوني للإلتفات إليه بسرعةٍ ولا أنتظر .
جلست على ركبتي أمام طفلة ٍ تشبه تلك التي في الصورة ، لكن شعرها أطول ، أجمل ، تبتسم في وجهي في وجل ، وخلفها تقف أمي ، كأنها تدعم وقوفها بين يدي أخ ٍ لم تعرفه إلا من خلال الحكايات .. حكايات أمي .
رفعت بأصابعي في هدوء خصلة شعر كانت قد غطت على بريق عينيها .. ما أجمل عينيها .
- مرحبا ، أنا " فارس " أخوكِ ، كنت مسافر وعدت .. وانت ِ ؟
- أنا " فاطمة "
أستدارت بسرعة ٍ ودفنت رأسها في خجل في ثوب أمي ، وهربت في استحياء إلى غرفتها .
كان " فيصل " يراقب ما يحدث في صمت ٍ ، يتأمل نظرات والدي نحوي ، وكنت أبحث في نفسي عن نفسي ، قبل أن تنشق عنها .
أسئلةٌ كثيرة كانت تعصف بذاكرتي ، وهم يتحدثون في ابتهاجٍ معي ، يحدثونني عن خلاصة عشر سنوات ٍ عجاف ، وكأنما يرجون أن تسقط هذه السنين في زحام كلماتهم ..
هل ستكون شخصيتي مختلفة لو لم أغترب ؟ لأي مدى فقدت هويتي الأصلية ؟ لماذا أنا ؟
استوقفت كلامهم فجأةً ، وسألت " فيصل " – أمامهم – عن تلك الزرقة في أظافر يد " فاطمة " !
ساد الصمت للحظاتٍ ، وأشعل والدي غليونه ، كأنه لم يسمع سؤالي .. وعادة والدي هذه تعني بان في الأمر شيء عظيم .
- اسمع " فارس " ..
كنت أستمع جيداً إليه وهو يصف حالة " فاطمة " الطبية ، يحدثني عن ذلك الثقب في قلبها منذ الولادة ، يخبرني عن اقتراب موعد العملية الجراحية ، ويطلب مني ان اطمئن ، وان أدعو لها كثيراً ، ولم ينسَ تحذيري من أنها لا تعلم عن حالتها شيء ، ورأيتني أسأله عن موعد العملية ، فأشار لي بيده ، بأن موعدها بعد أيامٍ ثلاثة ..
اتخذنا من غرفة الضيوف مكاناُ لنكمل حوارنا سوياً ، وأمي تجتاحها مشاعر متناقضة ، كسائر أهل البيت ، الفرح والحزن يجتمعان أحياناً في الوقت ذاته ..
أخبرني بأن حالتها منذ ولادتها ، وبأن جميع من في البيت يدركون هذا جيداً ، وحدثني عن بيع سيارة " كرم " وديونه التي وصلت إلى مئة ألف ريال من أجل " فاطمة " ..
لا زال " كرم " إسماً على مسمى ، يُفني نفسه لأجل عائلته ، وما تحمله لوعثاء السفر الدائم إلاّ لرغبته في استمرار علاج " فاطمة " ، كم أشتاق إلى عناقك يا أخي ..

- الغداء جاهز يا شباب ، والدكم ينتظر ..

كان حرصي على أن تجلس " فاطمة " بجانبي واضحاً للجميع ، وحضور " نزار " فجأة ً ، ومزاحه اللامتناهي يجعل الجميع يبتسم ، وأمي تتنقل في بصرها بيننا ، تسكب لوالدي خارج الصحن احياناً ، ووالدي يضرب كفاً بكف ، وهي تضحك في طفولةٍ ، ما أجمل ضحكتكِ يا " فاطمة " .

الساعة العاشرة مساء ً ..

أحاديث المساء عند أمي لا تنتهي ، تخبرني عن جيرانها في البناية ، الكل مشغول ٌ بنفسه ، تترحم على الماضي في امتعاض ، تحدثني عن نقاء الأيام والناس في فلسطين ، وعن سؤال الجار عن الجار ، تسرد لي حكاياها عن جارتها اللئيمة ، وعن ارتفاع أسعار الخضار وجنون بائعيها .. وأنا أسمع عفوية حديثها ، وأراقب مهارة يديها في تقطيع الخضار ..
و " فاطمة " تسند رأسها على كتفي ، فأستكين بلا حراكٍ كي تغفو ، وأشير إلى أمي أن دعيها هكذا ، فتبتسم ..
نظرات أمي محملةً بوجع كبير وخوف ٍ من القادم ، وإيمانها بقضاء الله أكبر من خوفها ، ويقينها بأن الروح أمانة لخالقها درسٌ تعلمته من تجارب السنين ، والصبر على المحن ِ يقف أمامها كطفلٍ يتعلم هويته ، ويدون في دفتره كيف الصبر يكون .
أحمل " فاطمة " برفق ٍ ، وأضعها في سريرها ملاكاً طاهراً نقياً ، وأتمتم في نفسي " غداً سيكون أجمل يا ملاك " .


 

رد مع اقتباس
قديم 02-16-2019   #8
أحمـيـنــي مـن عينـاكِ


الصورة الرمزية علاء فلسطين
علاء فلسطين غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 560
 تاريخ التسجيل :  Oct 2013
 العمر : 32
 أخر زيارة : 11-01-2023 (09:43 PM)
 المشاركات : 5,130 [ + ]
 التقييم :  7572
 الدولهـ
Palestine
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Black
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 186
شكر (تلقي): 144
اعجاب (اعطاء): 202
اعجاب (تلقي): 353
لايعجبني (اعطاء): 0
لايعجبني (تلقي): 0
افتراضي



الله عليك أيها القاص الممتع بسرده
سأعود غدا لأعرف قصة دخول السيد نزار عبد الحميد لقصتك
تحيه تليق بك أديبنا القدير عدي بلال
الشكر والتحايا


 
مواضيع : علاء فلسطين



رد مع اقتباس
قديم 02-16-2019   #9


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي



الفصل الأخير ..

اليوم الثالث


ليلة الأمس كانت طويلة ، تمطى بها الليل حتى ظننت بأن الصبح لن يطلع ، وأمي لم تنم ..
كنت أسمع دعائها آناء الليل ، وأسمع اسم " فاطمة " بعد كل دعاء ، والساعة الآن تقترب من السابعة صباحاً ، وأبي يلتزم الصمت ، ويتظاهر بالنوم في سريره ، هكذا هو أبي ، ظاهره صلب وباطنه يُخفي طيبةً مغلفةً بالخوف لما هو قادم .
كنت أسمع صراخ " فاطمة " على أمي ، تخبرها بأنها لم تتناول فطيرتها الصباحية وعصير البرتقال الذي اعتادته ، وأمي تحاول في ألم ٍ وشدة ٍ أن تشرح لها السبب ، والتهاون في اطعامها قبل العملية أمرٌ مستحيل .
قادتني قدماي إلى المطبخ ، أباغت " فاطمة " من الخلف ، أحملها في مداعبةٍ ، وأراقب أمي تعد الإفطار في محاولةٍ للهروب من نظراتي نحوها ، تحاول .. أن تتقمص دور الأم الصابرة في تعب ، وضحكات " فاطمة " يتردد صداها بين جدران المنزل .
اتصال " نزار" من المشفى ، واخبار " فيصل " عن تجهيز كل شيء ، دفع بالثاني إلى احتلال الجدية على وجهه ، وأمي تمشط " فاطمة " في حنان وصمتٍ .
قيادة " فيصل " تشي بأنه يقود بنصف عقل ٍ ، وأنا أجلس بجانبه وأحاول في اجتهاد أن أفهم خطوات القدر القادمة ، وأمي في الخلف تقرأ قرآنها على رأس ابنتها ، ووالدي تغشّى غطاؤه ، ورفض أن يغادره معنا .
- هل تذكر نظرية السلسلة التي أخبرتك عنها ذات مرة ٍ في رسالة يا " فارس " ..؟
أذكر هذه الرسالة جيداً ، حين أخبرني بأن أمور الحياة مرتبطةً ببعضها على شكل حلقاتٍ مكونةً سلسلة طويلة ، إذا ما أردت كسر إحدى حلقاتها لتدخل غيرها مكانها ، فلا بد أن تخسر احداها .
- نعم أذكرها جيداً ..
كلانا أدرك مغزى سؤاله ، وكلانا التزم الصمت بعدها ..

في المشفى .. الساعة العاشرة صباحاُ

عند وصولنا المشفى ، كان " نزار " قد أنهى جميع اجراءات الدخول ، وأمي تمسك بيد "فاطمة " وتصعد بها إلى الدور الثاني ، إلى غرفتها ، إلى سريرها الأبيض ، تسند رأسها إلى الوسادة ، ترفعها قليلاً ، والممرضة تغرز في ذراع " فاطمة " إبرةً ، وأمي تغرز في قلبها الأمل .
لم يكن رجوعي إلى عائلتي أمراً ميسراً ، واحتاج إلى عشر سنواتٍ عجاف ، واتساءل في نفسي وأنا أنظر إلى هذا الملاك أمامي ، أحقاً عشر سنواتٍ كافيةً لدفع ثمن رجوعي ؟ أم أن القدر لم يكتفِ بها ، ويطالب بالمزيد من العبرات الساكنات في المقل ؟
" فاطمة " تطلب من أمي أن تفتح التلفاز ، على قناتها المفضلة ، لا تريد أن تفوتها حلقة اليوم ، تلك التي تحكي عن كيفية صنع قالباً من الكعك ، لتصنعها بنفسها – هذه المرة - في عيد ميلادها القادم ، تُخبرنا بأنها ستزينها بشرائح الأناناس ، وبأنها تعلمت كيف يصبح البرتقال عصيراً بيديها ..
و" نزار" يفتح الباب ، وعيناه تنطقان بأن الموعد قد حان ، وغرفة العمليات تنتظر قدوم " فاطمة " ، والممرضتان تنقلانها من سرير ثابت إلى آخر متحرك ، يدفعانه بحرصٍ ، ودعوات أمي تتردد على مسامع من حولها ..
حديث " فيصل " مع الجرّاح عند الباب يبدو مطمئناً ، والساعتان القادمتان كأنها الدهر طولاً ، وأنا أكتم القلق في صدري وأدفنه ، تجملاً بين أمي وأخوتي .
كنت دائماً أشكر الله أن ابتلاني بغربتي ، ولم يبتلِ بها أحداً من عائلتي ، والغربة ليست رحيمةً بمن وقع تحت سطوتها ، تسلبه حقوق كثيرة ، وتختصر أحلامه في حلمٍ العودة إلى العائلة التي إليها ينتمي .
علمتني الغربة كيف التعامل مع النائبات يكون ، وعلمتني بأن النوم بنصف عين أمرٌ حتمي .
الغربة جريمةٌ منظمةٌ ، تغتال سنوات العمرِ ، وتسلبُ لحظات السعادة الصادقة ، وتغير ألوان الحياة إلى اللون الرمادي ، لا وضوح بها .. تزرع في النفس الرغبة في العزلة الدائمة ، وتجعل الإنسان شخصاً آخر لا يعرفه غيره .. تُفقده كيفية التعامل مع جذوره ، عائلته ، فتراه يتخبط بين الابتسامة الحزن في فوضوية مشاعرٍ يجهل مصدرها ويعرفه في الوقت ذاته.
تمضي الساعتان ببطءٍ شديد ، وساعات الانتظار تحمل بين طياتها هواجس كثيرة ، وانتظار هذا الباب أن يُفتح بيد الجراح حاملاً معه ابتسامة الأمل ، يجعلها أطول .
أخبرني " فيصل " في إحدى رسائله عن الموت ، وكيف أن انتظاره حماقةً يمارسها كل ذي يأسٍ ، وأراه الآن يصلي في صمتٍ ، ويحكم تشبيك أصابعه جيداً .
و " نزار " يمشط الممر ذهاباً واياباً ، ويسترق النظر من خلال نافذة زجاجية ، كأنه يستبق الخبر ، كأنه يستحث الوقت أن يجاهر بما في صدره ، يُحفز نفسه لاستقبال ماهو آت .
فُتِحَ الباب الآن ، وشعرت بنفحة هواء ٍ بارد ٍ لا تشبه برودة المكان ، والجراح يخبىء فمه خلف كمامةٍ زرقاء ، ويربط رأسه بغطاء أزرق ، يتحدث إلى آخرٍ يشبهه في صوتٍ لا يسمعه غيره ، وعينان أمي تحاول ان تقرأ عيناه .
أماط عن فمه الكمامة ، وأسر إلى " نزار " بكلمات ٍ وربّت على كتفيه في مواساةٍ ، وألقى بجملة على مسمع أمي " رحلت وهي مبتسمة .. ادعي لها " .
هل دفعتِ حياتك ثمن رجوعي يا " فاطمة "..؟ ! وهل ثلاث ليالٍ تكفي يا " فاطمة " ..؟!
وقفت أراقب احتضان اخوتي لأمي ، وشعرت بأن الأرض تميد بي ، ونهرت عيني إذ استعصى عليها الدمع ، واقتربت منهم ، وضعت رأسي على رؤوسهم ، واحتضنتهم في ارتباكٍ ، آآه ٍ يا أمي ما أشد ايمانكِ ، وما أشد حزني عليكِ يا ملاكي .
اتصال والدي و " كرم " جعل الكلمات تغرق في يم ٍعميق ، وأمي تدفن وجهها بين كفيها وتحمد الله في صبرٍ جليل ، والطبيب يُشير إلى " فيصل " إلى مكتبٍ في آخر الممر ، يُخبره عن الاجراءات المتبعة في مثل هذه الأمور .
تُصر أمي أن تودع " فاطمة " ، أن ترى ابتسامتها وتقبل جبينها للمرة الأخيرة ، والطبيب يوافق على مضضٍ لحظة خروجها من الغرفة ِ وقد غُشيت بغطاء أبيض ..
و" نزار " يحمل بين يديه تقرير الوفاة ، ويوجه عنان سيارته إلى المخفر ، وتصريح الدفن بعد صلاة الظهر أصبح بين يديه ، و " فيصل " يُقلُ أمي إلى البيتِ في وجومٍ عظيم .
ووالدي يُشعل غليونه في الصالةِ ، ويستكين على الكرسي ، وينظر إلى الأمام إلى اللاشيء .
في المسجدِ صلينا صلاةً لا سجود بها ، صلينا على طفولة ٍ أبى الزمان إلاّ أن يواريها تحت التراب ، والسماء تعدُ بأن تحتضن روحها ، وأن تجردها من نوبات القلب الحادة في ليل الشتاء البارد .
الجميع يغادرون ، يودعون أحبابهم ويوارونهم الثرى ، والمقبرة تسترجع رهبتها في صدري ، وأنا أقف أمام قبرها في وجلٍ ، وشاهد القبر يقف في حزمٍ أمام حزني ، يخبرني بأن الطفولة ترقد بسلام ٍ هنا ، وبأن روح " فاطمة " تحلق فوق رأسي الآن ، تناشدني الصبر .
أقرأ على روحها الفاتحة ، وأعاهدها أن أزورها كل يومٍ ، أن أحدثها عن يومي ، وعن أخبار من أحبها ، وأعاهدها .. أن أبي سيزورها حين يصحو من الخبر ..
أقبل شاهد القبر ، وأضع وردةً بيضاء بجوار ( هنا ترقد " فاطمة " ) .. وأمضي .


تمت ..

عدي بلال



 

رد مع اقتباس
قديم 02-16-2019   #10


الصورة الرمزية عدي بلال
عدي بلال غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4484
 تاريخ التسجيل :  Nov 2018
 العمر : 52
 أخر زيارة : 01-19-2020 (02:38 PM)
 المشاركات : 5,094 [ + ]
 التقييم :  4589
لوني المفضل : Cadetblue
اضف الشكر / الاعجاب
شكر (اعطاء): 589
شكر (تلقي): 312
اعجاب (اعطاء): 853
اعجاب (تلقي): 959
لايعجبني (اعطاء): 1
لايعجبني (تلقي): 5
افتراضي



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عزوف مشاهدة المشاركة
الفقد ، الغربة ، الوداع ، المصير المجهول

مؤلمة و موجعه

الكتابة،

بتريح النفس

قلم مميز و اُسلوب بيجذب القارئ

شكرا امير الحرف
القديرة عزوف

شكراًَ لوقتك وتعقيبكِ، وإن وجدتِ الوقت والرغبة في متابعتها للنهاية، فقد انتهت ..

تحاياي


 

رد مع اقتباس
قائمة الشكر / الاعجاب
شكر شكر/ت هذه المشاركة
اعجاب اعجب/ت بهذه المشاركة
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صور اسم فاطمة 2017 , رمزيات اسم فاطمة 2018 , اجمل خلفيات اسم فاطمة 2016 امير القلوب صور اسماء , صور حروف , تصاميم اسماء اولاد , تصاميم اسماء بنات 5 10-14-2018 03:59 PM
أفغانستان ترقد فوق كنز من المعادن سفير القلعة ثقف نفسك 4 09-07-2014 08:32 PM
برنامج فاطمة للمحاسبة شمس الصباح برامج 2017 , برامج نت 2017 , برامج كمبيوتر 2 01-13-2014 07:55 PM


الساعة الآن 03:48 AM


فن بيتك متجر فن بيتك الصعب للاتصالات سبيكترا

Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc.