حين كنت صغيرا، و ربما لا زلت، كنت أستثقل نهارات رمضان من الفجر حتى العصر، البيت يكون خاملا ميتا لا حياة فيه سوى من حركة الآدميين العادية، أي إخوتي، أما أمي فتراها إما تصلي أو نائمة.

ما أن يؤذن العصر، تبدأ إمارات الحياة تدب في أرجاء البيت، تصلي أمي العصر، و أنا أرقبها جيدا منتظرا أن يبدأ الطقس الرمضاني، حتى تدخل المطبخ فأعتبر أن ساعة العمل لديها قد دقت، و إلى الأمام أذهب لأساعدها نظرا لعدم وجود البنات في البيت، لا يذهب فكركم بعيدا، فأمي لها بنت واحدة تسكن مع زوجها، لذلك يقولون لها أم الصبيان، و هي تقول دوما أنا ما بعرفش أربي بنات، لذلك فأختي أيضا شخصيتها فيها نوع من الرجولة و الخشونة، كان الله في عون زوجها.

و تبدأ سيمفونية العصر، قرقعات أطباق و صحون و طناجر، تلك القرقعات تعيد للبيت الحياة المفقودة، ما أروع المطابخ و أدواتها في يد أمي، حتى المدقة التي كانت تدق بها التقلايات و الفلفل الشطة و الثوم و عين الجرادة كان لها رونقها، كل شيئ أذكره، لحن أمي في ضرب المدقة في الهون الخشب، روائح الدقة و روائح البصل و الأرز و طبخاتها المختلفة، يا الله لماذا مر الزمن.

لقد سافرت إلى كل قارات العالم تقريبا و أكلت في مطاعم راقية جدا و فنادق فخمة و في طائرات و فوق سفن و في جزر و فوق جبال و في وديان و على ضفاف محيطات و أنهار و بحيرات و لكن طعام غير طعامها لم أستطب. دقة أمي، طبيخ البامية بالتقلاية و الملوخية بلحم و دون لحم بإضافة مكعبات المرقة للطبيخ ، الرز المفلفل الذي أجيد صناعته مثلها تماما، و كل طبيخها أجيد صنعه لأكن دقيقا، و لكن أنفاسها لها وحدها، هناك السر، لن أجد امرأة لها أنفاس أمي، مهما غلت تلك المرأة فأنفاس أمي تشبه لحنا تسمعه من سيارة مسرعة لا تعرف صاحبها و لا تعرف أين يذهب و لا اسم المقطوعة التي يسمعها، و تظل تدندن بها مدى الحياة و أنغامها تشجي روحك دون أن تعرف سرها.

السلق و العدس، خليط من أوراق السلق و العدس و بصلتين تحوسهما في زيت و تضيف مكعب مرقة دجاج و رشة كمون و دمتم لكن من أين ستأتون بأنفاس أمي لتضيف الطعم و الحنين و الشوق لفلسطين؟

منقول