بعد الرحيل : لـ خليل العواوده .

كانت تتوكأ على رسالتها التي تحاول كتابتها لصديقتها التي تعلم أنها قوّيةً كفايةً لترفعها من جُب البئر المظلم الذي سقطت فيه .

- تفرّقنا , وأنا أكُتب الآن لكِ كما يكتُب الذي يُحاصرهُ الموت وصيّتهُ , أكتب لكِ وقد فشلتُ بالتوقف عن البُكاء , تسرب الدمع في مجرى خدّي ففضح وجعي الذي أكلُمهُ وأكتمه طوال النهار أمام الناس , لا أريدُ إلا النسيان ولا أريد سوى الخلاص , لكنني ضعيفة .. لأبعد حدٍّ ضعيفة .
أشتاقهُ جداً , وبرغم كُل ما فعلهُ لو عاد سأعود , نعم أعلم أني ضعيفة الإرادة وقليلة الحيلة أمام قلبي .
لا تتأخري عنّي يا حنين , فإنني والله كُسِرت .

كانت حنين أقوى , لكل امرأةٍ ما يميّز نفسها وشخصيّتها , وما ميّز حنين إلا أنها عرفت أن كُل شيءٍ خلف الكواليس يقبل جميع الإحتمالات , وجميع الأخطاء ستكون مفتوحةً على مصراعيها , إن الذين يسكنون خلف الكواليس دوماً لن تكون لهم الجرأة ليخرجوا للناس , وهي تعلم أن الكواليس ما صُنعَت إلا للإختباء , وما مِن مُختبئٍ إلا ووراءهُ ( ريبة ) .
كتبت لصديقتها دون أن تُفكر , ودون أن تبحث عن أي فكرةٍ تقولها , كتبت وقد توقّعت هذا ( السيناريو ) مُنذ أن أخبرتها صديقتها بأنها ( واقعةً ) بالحُب .

كتبت حنين :

الذي رحل عنكِ كان دوماً يقول : لا عيشَ لي من دونكِ , تعلّقتُ بكِ جداً , لا أمان لي بعدكِ , لا فرحَ لي بعدكِ, لا حُبّ بعدك , ولا أمل بعدك .

الذي رحل عنكِ يا صديقتي ما كان يوماً لكِ , وما نوى أن يكون جدّياً معكِ , إن الرجال الذين يريدونك لا يسكنون خلف الستائر السوداء , ولا يخفون أنفسهم , إن الذي دقّ هاتفك ليلاً لن يدق في يومٍ من الأيام أبواب بيتك نهاراً , إنهُ (صاحب الظل الطويل ) الذي جاء مجهولاً وظلّ إلى الأبد مجهول , إنهُ رجل أحلامك الذي أقنعك به شيطان نفسك , وسوّلت له شياطين نفسه خذلانك وهجرك .

الذي رحل عنكِ ما كُنتِ يوماً له , وما كُنتِ أي شيءٍ في خططه المستقبلية وأمنياته الأُسرية , قد كُنت خُردةً تخلّص منكِ بقلبٍ باردٍ دون أي شعورٍ بضرورتك وأهميتك , قد أدار مُحرِك دُنياه ورحل عنكِ , وقد كُنت ساذجةً لآخر لحظة , تلوّحين لهُ من بعيد وهو يتلاشى أمامك , ظللتِ واقفةً على مفرق الطريق , ذَبلتِ كما ذبلت فيروز صيفاً وشتاءاً بانتظار الذي غاب ونسيها إلى الأبد .

الذي رحل عنكِ كُنت صفحةً في عُمره , وقد كان كتابَ عُمرك الذي كتَبتِهِ بماء عينك وطرّزتيه بشرايينك , كُنت سطراً في قصّته , وكان حَبكةَ قصّتك , كُنتِ أغنيةً منسيّة الكلمات في باله , وكان ترتيلةً تخوضين فيها ليلاً نهاراً دون توقّف , الذي رحل عنكِ ما كانَ ينويكِ حلالاً , وما كَانت أمنياتكِ فيهِ إلا حلال .

الذي رحل عنكِ قد دخل من بوابة ضعفك , وخرج من بوابات روحك كُلّها , انسلّ مِن كُل مساماتك فقتلك , آلمك كما تؤلم سكرات الموت مُحتضرها , دخل إليكِ حاملاً شمعةً ووردةً في مزهرية , وخرج منكِ حاملاً رُفات أحلامٍ ودمعَ امرأةٍ على الرصيف منسيّة .

الذي رحل عنكِ كان عقاباً على ذنبٍ اقترفهُ هوَ فيكِ , فكُنت ضحيّةَ تنازلاتكِ واستسلامكِ له , ها هو الآن يعبث بعيداً عنكِ تاركاً وراءهُ حُطام مدينةٍ في داخلك دُمِّرت إلى الأبد .

ها هو الآن يُكرر ذات الكلام على سمع مسكينةٍ أُخرى تذوب بالكلمات التي ذوّبتك من قبل , وتشعر بذات الطيران الذي شعرتِ به من قبل , إنها مُقبلةٌ على كتابة نفس رسالتكِ التي سترثي بها نفسها وتستغيث صديقتها , ولربما تكتب لها صديقتها ذات الكلام الذي أكتبه لكِ .

اهدأي يا هديل, وامسحي دموعك على سجّادة صلاتك , إبحثي عن النجاة بين صفحات مُصحفك الشريف , وعودي إلى الذي لم يتخلى عنكِ رغم أنكِ ابتعدتِ عنهُ إرضاءاً لبَشَر , غار الله على قلبكِ يا صديقتي فردّكِ إليه , فلا تضيعي طريق الله بحثاً عن طريق من لا طريق له .

قرَأت هديل الرسالة التي ضربت بها حنين أوجاعها مُباشرةً , ضغطت صديقتها على كُل نُدبها التي لم تَبرأ بعد , قرأتها وهي تعلم أن كُل كلمةٍ فيها حقيقةً موجعة عليها إدراكها , فما بعض الشفاء إلا مُلامسة الجراح وإخراج كُل ما فيها من سموم .

مَلأت صدرها بذكر ربّها , وتنفست طويلاً كالذي نجا من الغرق لحظةَ أن ظنّ أنهُ لا هالكٌ لا محالة , قرأتها وتوضأت وقرأت على لسان ذا النون ( أن لا إله إلا أنت سُبحانك إني كُنت من الظالمين - فاستجبنا لهُ ونجّيناهُ من الغم وكذلك نُنجي المؤمنين )