!~ آخـر مواضيع المنتدى ~! |
|
إضغط علي
![]() ![]() |
|
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| ||||||||
| ||||||||
![]() الجزء الثالث حرية الصحافة المقالة الرئيسية: أريوپاگيتيكا في 13 أغسطس 1644، تحدث القس المشيخي هربرت پالمر أمام مجلس العموم، واقترح علناً حرق رسالة ملتون عن الطلاق. ولم تحرق الرسالة؛ ولكن شكوى بالمر ربما أدت "بشركة المكتبات" التي تضم كل باعة الكتب الإنجليز، إلى لفت نظر مجلس العموم (24 أغسطس) إلى أن الكتب والنشرات تخالف القانون الذي يتطلب تسجيلها وإجازتها بمعرفة الشركة. وكان هذا القانون قد صدر في عهد اليزابث، كما أن البرلمان كان قد جدد العمل به في 14 يونيه 1643، بإصداره أمراً ينص على: أنه لا يطبع كتاب أو نشرة أو ورقة، أو أي جزء من شيء من هذا القبيل، أو يعرض للبيع، قبل التصديق على نسخة منه وإجازته، من أشخاص يعينهم لهذا الغرض أحد المجلسين أو كلاهما معاً، وقبل أن يسجل في السجل المعد لذلك في شركة المكتبات، طبقاً لما جرى عليه العرف من زمن بعيد. ويعاقب أي خرق لهذا القانون بالقبض على من تولوا التأليف والطبع. الصفحة الأولى من طبعة 1644 من كتاب أريوپاگيتيكا Areopagitica وكان ملتون يهمل دوماً تسجيل ما ينشره نثراً. وعلى الرغم من أن كتابه "مبدأ الطلاق ونظامه" ظهر بعد صدور الأمر سالف الذكر بشهرين، فإنه تجاهل ما يقضي به. وربما كان شاعرنا ذا حظوة لدى البرلمان لأنه ناصره في صراعه مع الملك، على أن البرلمان على أية حال، تغاضى عنه وحده ولكن الأمر ظل سيفاً مسلطاً على رأسه وعلى رؤوس سائر المؤلفين في بريطانيا. وبدى لملتون ضرباً من المحال أن يزدهر الأدب في ظل مثل هذه الرقابة. فماذا يجدي خلع ملك وتحطيم نظام أسقفي استبدادي قاسٍ، إذا استمر البرلمان والكنيسة على التدقيق والتحقيق في كل كلمة يتفوه بها الإنجليز؟. وفي 24 نوفمبر 1643 أخرج درن تسجيل أو إجازة أروع أعماله النثرية "أريوپاگيتيكا: حديث من جون ملتون عن حرية المطبوعات دون إجازة، إلى برلمان إنجلترا" وليس في هذا الحديث قذف ولا طعن ولا نقد لاذع، بل كان على مستوى عالٍ من اللغة والفكر وفيه يطلب إلى البرلمان بكل إجلال واحترام، أن يعيد النظر في قانون الرقابة، من حيث أنه ينزع إلى "تثبيط الهمم في سبيل العلم والمعرفة، ويعوق بل يقضي على أي إبداع واكتشاف يمكن أن يخرج في المستقبل إلى حيز الوجود في مجال الحكمة الدينية والمدنية كليهما." ثم يستطرد في قطعة مشهورة قيمة: لست أنكر أنه من أعظم صلاحيات الكنيسة والدولة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدار الناس، ومن ثم يحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر لأن الكتب ليست أشباه ميتة إطلاقاً، بل أن فيها من الفعالية والحيوية مل يجعلها نشيطة في مثل نشاط النفس التي أنتجتها. ليس هذا فحسب، بل أنها كذلك، تحفظ، وكأنما تحفظ في قنينة، أبقى عصارة ودقة مؤثرة للفكر الحي الذي نماها وأبدعها. وإني لأدرك أنها نشيطة قوية الإنتاج مثل أسنان التنين الخرافية إذا نثرت على الأرض هنا وهناك انبعث منها رجال مسلحون (هكذا تقول الخرافة). ومن جهة أخرى، فإنه إذا لم يكن ثمة حيطة وحذر، فأن قتل الإنسان يعدل تقريباً قتل الكتاب الجيد. إن من يقتل رجلاً يقتل مخلوقاً عاقلاً على صورة الله، على حين أن من يدمر الكتاب الجيد، يقتل العقل نفسه، بل يقتل صورة الله، في صميمها. وكم من إنسان يعيش حملاً ثقيلاً على الأرض، ولكن الكتاب الجيد هو دم الحياة الغالي للروح السامية يصان ويختزن، قصداً لحياة وراء الحياة. حقاً أن أي عصر لن يستطيع استعادة الحياة، وقد لا يكون في هذا خسارة، ولا تعوض ثورات العصور في الغالب عن فقدان حقيقة منبوذة، ساءت حال أمم بأكملها من أجل افتقارها إليها. وينبغي لذلك أن نكون حذرين يقظين لأي اضطهاد نصبه على الأعمال الحية لمشاهير الرجال البارزين، وكيف نبدد حياة الرجل الناضج المحفوظة المختزنة في كتاب. فإذا رأينا عملاً من أعمال القتل يرتكب على هذه الصورة، وهو في بعض الأحيان استشهاد، إذا امتد هذا إلى كل الإنتاج حتى ينتهي الأمر إلى مذبحة، فمن ثم لا ينتهي الإعدام عند خنق الحياة الفطرية، بل ينفذ إلى الجوهر السماوي الخامس البالغ الرقة، أي روح العقل ذاته، فيقضي على الخلود أكثر ما يقضي على مجرد حياة. ويستشهد ملتون بالنشاط الفكري في أثينا القديمة، حيث لم تفرض الرقابة إلا على الكتابات التي تتضمن إلحاداً أو قذفاً، وهكذا حكم قضاة محكمة أريوباجوس العليا بإحراق كتب بروتاجوراس، وبنفيه خارج البلاد، لمقالة بدأها بالاعتراف بأنه لا يدري "إذا كان هناك آلهة أم لا". ويمتدح ملتون حكومة روما القديمة لإتاحتها قدراً كبيراً من الحرية للكتاب، ثم يصف نمو الرقابة في روما الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية. ويحس ملتون بأن قانون الرقابة هذا تشتم من رائحة "البابوية" ما فائدة أن تكون رجلاً، لا مجرد تلميذ في مدرسة، إذا كنا فقط هربنا عن الدرة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة (للطباعة)؟ إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن. إني لا أستطيع أن امتدح فضيلة مفروضة عليها الحماية والرقابة، لا يمارسها أحد ولا ينشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها، بل تتسلل بمعزل عن الناس. أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فوق كل الحريات..ومع أن كل رياج المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تنهزم في معركة حرة مفتوحة؟ ومهما يكن من أمر فإن ملتون لا يطالب بالحرية المطلقة للمطبوعات، فهو يؤمن بأن الإلحاد والتشهير والفحش يجب أن يحرمها القانون، ويرفض التسامح مع الكاثوليكية لأنها عدو للدولة، ولأنها هي نفسها موصومة بالتعصب. وفيما عدا ذلك، فإن الدولة التي تسود فيها حرية الفكر والكلام لابد أن ترقى وتنمو فيها سائر الأشياء سواء بسواء. يخيل إلي أني أرى بعين البصيرة أمة كريمة قوية تستيقظ وتنفض النوم عن جفونها، مثل رجل قوي يفيق من سباته، وتهز خصلات شعرها. ويبدو لي أني أراها مثل نسر، يجدد شبابه ويفتح عينيه الحادتين في وقت الظهيرة. ولم يلتفت البرلمان لدفع ملتون أو حجته، بل على النقيض من ذلك، سن قوانين تصاعدت صرامتها (1647، 1649، 1653) ضد إصدار مطبوعات غير مرخصة. وشكا أعضاء شركة المكتبات من أن ملتون لم يكن قد سجل "الأريوباجيتيكا". وعين مجلس اللوردات اثنين من رجال القضاء لمساءلته، ولسنا نعرف النتيجة. ولكن من الواضح أنهم لم يزعجوه، لأنه كان صوتاً ذا نفع وقيمة للبيوريتانيين المنتصرين. وفي فبراير 1649، أي بعد إعدام تشارلز الأول بأسبوعين اثنين، نشر ملتون رسالة عن "ولاية الملوك والحكام"، ارتضى فيها نظرية العقد الاجتماعي التي تقول بأن سلطة الحكومة مستمدة من سيادة الشعب، وأنه من حق من يملكون السيادة أن يحاسبوا أي طاغية أو ملك شرير، وعزله وإعدامه، بعد إدانته إدانة عادلة". وبعد شهر واحد دعاه مجلس الدولة في الحكومة الثورية ليكون "سكرتير المجلس للغات الأجنبية". فنحي ملحمته جانباً، ليتفرغ لمدة أحد عشر عاماً، لخدمة جمهورية البيوريتانيين وحكومة "الحماية" على عهد كرومول. سكرتير اللغة اللاتينية كان النظام الجديد في حاجة إلى من يتقن اللغة اللاتينية، ليحرر المراسلات الأجنبية، وكان ملتون المرشح البارز لهذا العمل. حيث كان يستطيع الكتابة باللغات اللاتينية والإيطالية والفرنسية كأحد أبناء روما القديمة أو فلورنسة أو باريس، كما أنه كان قد أثبت في أشد أوقات الحرج أنه مخلص لقضية البرلمان في نزاعه ضد الأساقفة والملك. وكان مجلس الدولة لا "كرومول" هو الذي استخدمه لهذا العمل. ولم يكن له صلة وثيقة بالحاكم الجديد، ولكنه لا بد أن يكون قد رآه كثيراً، وأنه قد أحس في تفكيره وفي كتاباته، بالتقارب مع هذه الشخصية المرعبة. ولم يستخدم المجلس ملتون لمجرد ترجمة رسائله الأجنبية إلى اللاتينية، بل كذلك، ليبرز للحكومات الأجنبية، في نشرات لاتينية، وجه العدالة والحق في السياسة الداخلية التي ينتهجها المجلس، كما يبرز، فوق ذلك كيف كان من الحكمة وسداد الرأي الإطاحة برأس الملك. وفي أبريل 1649، فور تقليده منصبه، انضم ملتون إلى موظفين آخرين في المجلس في وقف نشرات الملكيين وأنصاره المساواة ضد نظام الحكم الجديد. وكانت الرقابة على المطبوعات آنذاك أشد صرامة منها في أي وقت مضى في تاريخ إنجلترا، متعبة في ذلك القاعدة العامة التي تقول بأن الرقابة تشتد بتزعزع مركز الحكومة. إن الرجل الذي كان قد دبج بأفصح بيان النداء الذي لم يكن له نظير من قبل، من أجل حرية الصحافة بات الآن ينظر إلى الرقابة من وجهة نظر السلطة الحاكمة. على أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن ملتون قال من قبل الأريوباجيتيكا: إنه من أهم صلاحيات الكنيسة والدلوة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدر الناس ومن ثم تحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر". ومذ كان جون للبيرن بصفة خاصة كاتباً مزعجاً من أنصار المساواة، فإن المجلس أصدر تعليماته إلى ملتون ليتولى الرد على كتابه المتطرف "اكتشاف أغلال جديدة". ولسنا ندري هل قام ملتون بهذه المهمة أو لم يقم. ولكنه يروي هو نفسه أنه "أمر" أن يرد على "صورة الملك" وامتثل لهذا الأمر فنشر في 6 أكتوبر 1649 كتاباً من 242 صفحة تحت عنوان "محطم الصورة". وارتياباً، ولكن اعتراضاً من بأن "صورة الملك" هو ما أوهم بأنه من تأليف شارل الأول نفسه، فإنه-أي ملتون تناول حجة الملكية فقرة فقرة، وانبرى لتنفيذها بكل مل أوتي من قوة ومن خلال ذلك دافع عن سياسة كرومول، وبرر إعدام الملك، وأبدى احتقاره "لتلك الشرذمة من الغوغاء المتقلبين الذين يعوزهم التفكير السليم المولعين بالصور،..قطيع ساذج عاجز تربى على الذل والخنوع....يفتتن بالطغيان". واستبد الغيظ والحنق بشارل الثاني، وهو يتجول في القارة، فاستأجر أعظم علماء أوربا كلود سوميز ليتولى الدفاع عن الملك الميت، وسرعان ما أصدر "سالماسيوس" "دفاعه عن الملك السابق شارل الأول"، في ليدن (نوفمبر 1649)، نعت فيه كرومول وأتباعه بأنهم "أوغاد متعصبون...وأنهم العدو المشترك للبشرية" وأهاب بكل الملوك، من أجلهم هم أنفسهم؛ أن يجهزوا الجيوش للقضاء على هذا الوباء...يقيناً أن دم الملك العظيم يستصرخ كل الملوك والأمراء في العالم المسيحي للثأر له. ولا يمكن أن يقوموا بعمل فيه هدوء روحه وسكونها خيراً من أن يعيدوا لوريثه الشرعي كل حقوقه كاملة، ويستردوا له عرش أبيه....وأن يذبحوا، كضحايا على جدث الميت المقدس، هذه الوحوش البالغة الضراوة، الذين تآمروا على قتل هذا الملك العظيم. وخشي كرومول أن-تزيد حملات مثل هذا العالم الذائع الصيت في أوربا من الاستياء السائد في القارة ضد حكومته، فطلب إلى ملتون الرد على سالماسيوس. وجهد السكرتير اللاتيني في إنجاز هذه المهمة قرابة عام كامل، في ضوء الشموع، على الرغم من تحذير طبيبه له بأنه يفقد بصره تدريجياً، وأنه مهدد بالعمى. وكانت إحدى العينين عاطلة بالفعل، وفي 31 ديسمبر ظهر "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه ضد دفاع سالماسيوس عن الملكية-لجون ملتون"، بدأ بالسخرية من سالماسيوس لبيعه خدماته لشارل الثاني، واستطرد ليظهر أن سالماسيوس قبل أربع سنوات فقط كتب يهاجم النظام الأسقفي الذي يدافع عنه الآن: أيها العميل الفاسد المرتشي المأجور...أيها الجبان المحتقر المرتد الخارج على مبادئك...يا أشد الحمقى سذاجة وبلاهة... أنت جدير بعكازة المهرج، حين تظن أنك تغزي الملوك والأمراء بالحرب، بمثل هذه الحجج الصبيانية الواهية... هل تتخيل إذن، أيها المتلعثم المحامي الصغير الحقير، الذي لم يولد إلا لينسخ ويقلد كبار الكتاب، الذي لم يؤت أية موهبة أو ذكاء أو عبقرية، أنك ستنتج شيئاً تكتب له الحياة من عندياتك؟ صدقني أنك وكتاباتك العقيمة معاً، ستلقي في زوايا النسيان في الجيل القادم. لولا أن "دفاعك عن الملك" سيدين ببعض الفضل للرد عليه، بمحض الصدفة، وعلى الرغم من أنه قد أغفل وطرح جانباً لبعض الوقت، فإنه لذلك سيبعث من جديد. وهذا هو ما حدث على وجه الدقة. أن سالماسيوس كان قد أضفى على تشارلز الأول صورة مثالية. ولكن ملتون يحط من قدره. ويشتبه في أن شارل حرض دوق بكنجهام على دس السم لوالده جيمس الأول، ويتهم الملك الميت بكل "ضروب الفساد الخلقي والإثم مع الدوق المذكور، ويتهم شارل بتقبيل النسوة في المسرح، وبمداعبته أثداء العذارى والعقيلات علناً". وكان سالماسيوس قد أطلق على ملتون أسماء كثيرة، فثأر ملتون بأن نعت سالماسيوس بأنه، غبي، خنفساء، حمار، كذاب، قذاف مغتر، مرتد، معتوه، جهول، متشرد، عبد ذليل، ويسخر من سالماسيوس لسيطرة زوجته عليه، ويعنف على أخطائه اللاتينية. ويدعوه إلى أن يشنق نفسه، ويضمن له الدخول إلى الجحيم. ونظر توماس هويز إلى هذه الكتب المتنافسة من علياء فلسفته، فأعلن أنه عاجز عن أن يقرر أي الفريقين أقوى لغة وأيهما أضعف حجة. على أن مجلس الدولة قدم الشكر لملتون. تلقى سالماسيوس نسخة من "دفاع" ملتون أثناء وجوده في بلاط الملكة كريستينا في ستوكهولم، ووعد بالرد عليه، ولكنه أبطأ. وفي والوقت نفسه انصرف ملتون عن الشؤون الخارجية إلى شؤون بيته. ففي 1649 انتقل إلى دار في "شيرنج كروس" ليكون قريباً من عمله. وهناك وضعت زوجته ولداً، لم يلبث أن مات، وفي 1652 وضعت بنتاً "دِبورا" كلفته ولادتها حياة أمها. وفي تلك السنة فقد ملتون بصره تماماً. وعندئذ نظم قصيدة من أروع قصائده (السونيت) "عندما أتدبر كيف فقدت نور عيني". وأبقى عليه المجلس سكرتيراً لاتينياً، وخصص له كاتباً ليدون له ما يمليه عليه. ومني، وهو رهين العمى، بخسارة أخرى، ففي عام 1653 انهارت الجمهورية التي طالما هلل لها ورحب بها، إلى "ملكية عسكرية" وأصبح فيها "حامي الحمى" كرومول، في واقع الأمر ملكاً. وراض ملتون نفسه على هذه التطورات بقوله: "أن أساليب العناية الإلهية يحوطها الغموض والإبهام". وظل على إعجابه بكرومول وامتدحه بأنه "أعظم بني الوطن وأكثرهم تألقاً وامتيازاً...أنه أبو البلاد"، وأكد له "أن في ائتلاف المجتمع الإنساني ليس ثمة شيء أحب إلى الله، أو أكثر التئاماً مع القليل من أن يتولى أسمى العقول السلطة العليا". وسرعان ما طلب إليه أن يتولى الدفاع عن "حامي الحمى" في اتهام خطير. ذلك أنه في 1652 ظهر كتاب يشكل عنوانه نفسه صيحة الحرب "صرخة الدم الملكي" إلى السموات ضد الإنجليز الذين قتلوا أباهم" وبدأ الكتاب بأن نعت ملتون بأنه "حيوان شرير بشع، قبيح المنظر، ضخم الجسم، مكفوف البصر....جلاد...يستحق الشنق". وقرن الكتاب إعدام شارل الأول بصلب المسيح، واعتبر قتل الملك كبرى الجرائم وسخر من جهر "الغاصبين" بإيمانهم بالدين: أن لغة وثائقهم العامة محشوة بالتقى والورع وكان لزاماً أن يجاريها أسلوب كرومول ومن يدافعون عنه، وأنه لمما يثير الاشمئزاز، كما يثير السخرية المريرة، إلى أي حد من الوقاحة والصفاقة يخفي هؤلاء الأوغاد الخفيون واللصوص الظاهرون حقيقة شرورهم بذريعة أو ستار من الدين. وكما فعل سالماسيوس، أهاب المؤلف المجهول بدول القارة أن تغزو إنجلترا وتعيد آل ستيوارت إلى العرش. وختم الكتاب بتوجيهه إلى الحارس القذر المتوحش، جون ملتون، المدافع عن قتل الآباء وقتلتهم، مع الأمل في أن يلقى وشيكاً شر الجزاء فيضرب بالسياط: حول هذا الرأس الحانث سدد الضربات جيداً، وشوه كل بوصة فيه بآثار العصا، إلى أن تصبح الجثة كتلة هلامية واحدة. هل توقفت؟ اضرب حتى تتفجر الصفراء من كبده من خلال عينيه الداميتين. واستحث مجلس الدولة ملتون للرد على هذا العنف، ولكنه تمهل توقعاً لحملة من سالماسيوس، أملاً في أن يرد على الخصمين في رسالة واحدة. ولكن سالماسيوس قضى نحبه (1653) دون أن يتم رده. وخدع ملتون في اعتقاده بأن كاتب "صرخة الدم الملكي" هو ألكسندر مورس، وهو قسيس عالم في مدلبرة فطلب إلى مراسليه في المقاطعات المتحدة موافاته ببيانات عن حياة موريس العامة والخاصة. وكتب أوريان أولاك، طابع الكتاب، إلى هارتاب، صديق ملتون، مؤكداً أن موريس ليس هو المؤلف. ولكن ملتون أبى أن يصدق هذا، وأيده في هذا، ما يتناقله الناس في امستردام. وفي إبريل 1654 كتب جون دروري إلى ملتون، محذراً إياه بأنه مخطئ في نسبه "صرخة الدم الملكي" إلى موريس، ولكن ملتون تجاهل هذا التحذير، وفي 30 مايو كتب الدفاع الثاني للشعب الإنجليزي"-جون ملتون. وكان سحر البيان في هذا الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته 173، أمراً مشهوداً، حيث أملاه باللاتينية رجل كف بصره تماماً. وعزا أعداؤه ما أصابه من عمى إلى العقاب الإلهي جزاء خطاياه الفادحة. وأجاب ملتون على هذا بأنه لا يمكن أن يكون، لأن حياته كانت مثالية، وهو يشعر بالفرح والابتهاج لأن الدفاع الأول: هكذا أصاب غريمي بهزيمة ساحقة....إلى حد أنه أستسلم من فوره وقد تحطمت روحه وانهارت سمعته، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية من حياته، ولو أنه كان يهدد ويرغى ويزيد كثيراً. فإنه لم يعد يزعجنا، فيما عدا أنه استعان بالجهد التافه لشخص جدير بكل الازدراء، حرضه بما لست أدري من الملق القبيح المسرف، على أن يرقعا قدر الإمكان بمديحهما، ما حل بشخصه مؤخراً من دمار غير متوقع. ثم يعرج ملتون على عدوه الجديد، فيذكر أن "موريس" تعني بالإغريقية "مغفل" ويتهمه بالهرطقة والتهتك والزنى، وبأن خادمة سالماً سالماسيوس حملت منه سفاحاً، ثم هجرها. بل أن طابع "صرخة الدم الملكي" نفسه يجلد بالسوط، وكل إنسان يعرف أنه غشاش مفلس سيئ السمعة. وفي ظرف ومرح أكثر، ويستعرض ملتون أعمال كرومول، ويدافع عن حملاته في أيرلندة، وعن حل البرلمان، وعن استيلاء على السلطة، ويوجه الحديث إلى "حامي الحمى": إننا جميعاً نقدرك حق قدرك ونقر بفضلك الذي لا يدانيه فضل، فأمض في طريقك القويم، ياكرومول، ... يا محرر بلادك، ويا من أرسى دعائم الحرية فيها، ويا من تفوقت بأعمالك المجيدة، لا على إنجازات الملوك فحسب، بل على مغامرات أبطالنا الأسطورية أيضاً. ولكن بعد عبارات الإجلال والإكبار هذه، لم يتردد ملتون في أن يمحض كرومول النصح في أمر السياسة. فأشار عليه بأن يحيط نفسه برجال من أمثال فليتوود ولمبرت (وهما من المتطرفين)، وأن يدعم حرية الصحافة وأن يترك الدين منفصلاً تمام الانفصال عن الدولة. كما ينبغي ألا تجمع أية عشور لرجال الدين، فإنهم بالفعل متخمون، (وكل ما فيهم سمين، حتى عقولهم دون استثناء". ويسترسل ملتون فيحذر كرومول من أنه "ونحن نعده، دوننا جميعاً، أعدل وأقدس وأفضل رجل" إذا أقدم على قمع الحرية التي دافع عنها، فلن تكون النتيجة إلا وبالاً ودماراً، لا لشخصه فحسب، بل كذلك لكل متطلبات الفضيلة والتقوى. ويوضح ملتون بأجلى بيان أنه لا يقصد "بالحرية" الديمقراطية، وهو يسأل الناس: لماذا يؤكد لكم أي إنسان حقكم في الاقتراع العام، أو قدرتكم على انتخاب من تريدون للبرلمان؟ هل من أجل أن تتمكنوا من انتخاب رجال من حزبكم في المدن، وفي الأقاليم، تنتخبون الرجل الذي مد لكم الموائد في بذخ بالغ، أو أسرف في تقديم الشراب برجال الريف والفلاحين السذج، سواء كان جديراً أو غير جدير بالانتخاب؟ ومن ثم لا يجتمع لنا في البرلمان أعضاء اتسموا بالحصافة والحكمة والخبرة والثقة، بل أعضاء صنعتهم الحزبية وموائد الطعام! وبعبارة أخرى تحصل على أعضاء من تجار الخمور والباعة المتجولين، من الحانات في المدن، ومن الرعاة ومربي الماشية في الريف، فهل يجدر بأي إنسان أن يكل أمور الجمهور لأمثال هؤلاء الذين لا يثق أحد أن يعهد إليهم بشأن من شئونه الخاصة؟ كلا، إن مثل هذا الاقتراع العام لا يعتبر حرية. فلأن تكون حراً، هو بالضبط أن تكون تقياً عاقلاً عادلاً معتدلاً مكتفياً بذاتك، لا تمد يديك إلى ما بأيدي الناس، وقصارى القول، أن تكون شهماً رحب الصدر شجاعاً. أما إذا تجردت من هذا كله أو كنت على نقيضه، فإنك لن تعدو أن تكون عبداً رقيقاً. وقد حكم الله على الأمة التي لا تستطيع أن تحكم نفسها وتدبر أمورها بنفسها، والتي استعبدتها شهواتها، بأنها لابد أن تستسلم لسلطان غيرها، فتقع في ذل العبودية بإرادتها وضد إرادتها معاً. وفي أكتوبر 1654 أعاد أولاك طبع "الدفاع الثاني" لملتون، في لاهاي، مع رد عليه بقلم موريس بعنوان "دليل دامغ". وفي المقدمة أكد الطابع أن موريس ليس مؤلف "صرخة الدم الملكي"، وأنه، أي أولاك، تسلم مخطوطته من سلماسيوس الذي أبى أن يميط اللثام عن أسم المؤلف. وأنكر مورس إنكاراً تاماً أنه المؤلف، وأكد أن ملتون قد أبلغ بهذا الأمر مراراً وتكراراً، واتهمه بأنه قد رفض من قبل تغيير "دفاعه"، لأنه لن يتبقى من شيء يذكر إذا حذف من السباب الذي وجهه إلى موريس. وفي أغسطس 1655 أصدر ملتون كتاباً من مائتين وأربع صفحات "دفاع عن النفس" ورفض أن يصدق إنكار مورس، وأورد من جديد فعلته الشائنة مع خادمه سالماسيوس، وأضاف أنها، في شجار مشروع أوسعت مورس ضرباً وطرحته أرضاً، وكادت أن تفقأ عينيه. ولكن تبين في خاتمة المطاف أن أحد رجال اللاهوت البروتستانت، واسمه پيير دي مولان، هو الذي كتب "صرخة الدم الملكي"، وأن مورس هو الذي نشره وكتب إهداءه. ولما دعي مورس ليكون راعياً لإحدى كنائس الإصلاح قرب باريس، أرسل شاعرنا عدة نسخ من "الدفاع الثاني" إلى الأبرشية لمنع تعيينه. ولكن مجلس الأبرشية عينه على الرغم من ذلك كله، وختم مورس سيرته التي اكتنفتها المضايقات (1670) وهو أنصح الوعاظ البروتستانت بياناً في باريس أو فيما حولها. ويبدو ملتون في مظهر أرق في قصيدة السونيت "مذبحة پيدمونت" (1655) . ويحتمل أنه هو الذي دون الرسائل التي أهاب فيها كرومول بدوق سافوي ليضع حداً لاضطهاد "ال?ودوا Vaudois" (أتباع پيتر ?الدو-بيوريتانيون منشقون في جنوب فرنسا)، وإلى مزران وحكام السويد والدنمرك والمقاطعات المتحدة ومقاطعات سويسرا، ليتوسطوا لدى الدوق. وفي 1656، بعد أربع سنوات من حياة العزوبة، تزوج ملتون من كاترين وودكرك التي لم تكتحل عيناه بمرآها، بطبيعة الحال ولكنها أثبتت أنها بركة ونعمة عليه، فكانت ممرضة صابرة متجلدة لزوج مكفوف عنيف، وأما لبناته الثلاث، ولكنها قضت نحبها (1658)، أثناء وضع طفل لم يعمر. وكانت تلك سنة عصيبة على ملتون، حيث رحل عن الوجود وكرومول أيضاً، فكان لزاماً على السكرتير اللاتيني أن يحافظ على منصبه، قدر طاقته، في غمرة فوضى الأحزاب التي انحدرت بريتشارد كرومول إلى مجرد رجل عاجز تافه محب للخير. وعلى الرغم من أن ملتون لابد كان يدرك أن إنجلترا سائرة في طريق استعادة ملكية آل ستيوراث، فإنه أصدر في أكتوبر 1658 طبعة جديدة من "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه" في أسلوب يغري بالاستشهاد. وفي مقدمة رائعة وصف ملتون "الدفاع الأول" بأنه "أثر ... تتعذر إزالته بسهولة"، وزعم أنه من وحي السماء ووضعه في المرتبة التالية لمآثر كرومول، الذي أنقذ حرية إنجلترا. وقاوم في شجاعة عمياء حركة إعادة تشارلز الثاني، وعندما وصل جيش مونك إلى لندن، وتردد البرلمان بين الجمهورية والملكية، نشر ملتون في فبراير 1660 رسالة موجهة إلى البرلمان، تقع في 18 صحيفة، "الطريق الممهد والسهل لإقامة جمهورية حرة، ومزاياه المرتقبة بالمقارنة إلى مساوئ ومخاطر إعادة الملكية في هذه الأمة". ومهرها في جرأة وبسالة باسمه (بقلم جون ملتون) وفيها ناشد البرلمان: ألا يلوث ويهزأ بدم آلاف الإنجليز المخلصين البواسل الذين خلفوا لنا هذه الحرية، التي اشترت بحياتنا نحن. وماذا عسى أن يقول جيراننا عنا وعن اسم إنجلترا عامة، إلا أنهم على أحسن الفروض، سيسخرون منا، قدر السخرية بهذا الرجل الغبي، الذي أورد (مخلصنا) ذكره، والذي بدأ يبني صرحاً وعجز عن إتمام البناء؟ أين صرح الجمهورية الشامخ الذي تباهي الإنجليز بأنهم سيقيمونه ليتقلص ظل الملوك، وتصبح إنجلترا روما أخرى في الغرب؟ ... ما هذا الجنون الذي اعترى هؤلاء الذي يستطيعون في شرف وكرامة أن يدبروا شئونها بأنفسهم، حتى يحولوا كل هذه السلطات إلى شخص رجل واحد! يا للجبن والنذالة أن نحسب أن مثل هذا الفرد هو مناط حياتنا، ونعلق عليه كل سعادتنا وأمتنا وسلامتنا وخيرنا، وبدونه لا يكون لنا وجود، أو نكون مجرد أفراد كسالى بلداء أو أطفال! إنه ليجدر بنا أن نعتمد على الله وحده، وعلى أنفسنا نحن، وعلى فضائلنا العملية وعملنا الجاد. Cquote1.png وتنبأ ملتون بأن كل (الاعتداءات القديمة) التي ارتكبتها الملكية ضد حرية الشعب سوف تعود وشيكاً بعودة الملكية. واقترح أن يحل محل البرلمان (مجلس عام) يضم أقدر الرجال الذين ينتخبهم الشعب للعمل حتى الموت، ولا يخضعون للعزل إلا عند الإدانة بإحدى الجرائم، ويجدد المجلس بانتخابات دورية. وعلى هذا المجلس، على أية حال أن يوفر أكبر قدر ممكن من حرية الكلام والعبادة والحكم المحلي. واختتم ملتون رسالته بقوله: Cquote2.png "أرجو أن أكون تحدثت إلى حد الإقناع إلى مجموعة كبيرة من الرجال الواعين المخلصين، أو إلى بعض من قد يقيمهم الله من هذه المقاعد الحجرية ليصبحوا "أبناء الحرية"، ويوقفهم ويجمعهم على قرارات حكيمة تقيم ما أعوج من أمورنا، وتصلح ما أفسد من أحوالنا، وتعالج هذه الخلل العام المتفشي في الجمهور الذي أسيء استغلاله وأعوزه من يوجهه ويرشده". Cquote1.png وتجاهل البرلمان هذا الالتماس الذي ينطوي على القضاء عليه. وظهرت النشرات المطبوعة التي تهاجم ملتون، وحبذت إحداها شنقه وأصدر مجلس الدولة، وهو آنئذ ملكي النزعة، أمراً بالقبض على طابع رسالة ملتون، وفصله من منصبه (السكرتير اللاتيني للمجلس) فكان جوابه على ذلك إنه أصدر طبعة ثانية مزيدة من الرسالة "الطريق الممهد السهل" (إبريل 1660) وحذر البرلمان من أن الوعود التي يقطعها الآن شارل من اليسير أن تنقض بمجرد تثبيت دعائم السلطة الملكية الجديدة. وسلم بأن غالبية الشعب ترغب في عودة تشارلز الثاني، ولكنه دفع بأن الأغلبية ليس لها الحق في استعباد الأقلية أو التحكم فيها. إنه لمن الأعدل....إذا وصل الأمر إلى حد الفرض بالقوة، أن ترغم الأقلية مجموعة أكبر مجموعة أكبر منها على أن تعيد إليها حريتها. من أن تفرض الأغلبية على أقلية من الناس من بني وطنهم أن يكونوا عبيداً أرقاء لهم، بشكل يسيء إليهم أبلغ إساءة. وتكاثرت الهجمات والحملات على ملتون وناشدت إحداها الملك تشارلز الثاني، وكان آنذاك في بريداً أن يتذكر جيداً الإهانات التي وجهها ملتون من قبل في رسالة "محطم الصور" وغيرها، إلى والده تشارلز الأول. واقترحت أن يضم ملتون إلى قائمة قتلة الملك الفعليين، لأنه يستحق الإعدام. وقبل أن تصل هذه النشرة إلى تشارلز الثاني، كان قد أبحر هو بالفعل إلى إنجلترا، وفي 7 مايو، ودع ملتون أولاده وآوى إلى مخبأ مع أحد الأصدقاء. ولكن كشف أمره وأودع السجن، وبات مصيره لمدة ثلاثة أشهر مرهوناً بما يقرره البرلمان الملكي ورأى كثير من الأعضاء أنه إذا كان ثمة من يستحق الإعدام، فهو ملتون. وكان هذا متوقعاً. ولكن مار?ل دافينانت وبعض الأعضاء الآخرين توصلوا إلى البرلمان أن يرحم شيخوخته وبصره المكفوف فاكتفى البرلمان بالأمر بإحراق بعض كتب بعينها من مؤلفاته، حيثما وجدت. وأطلق سراحه في 15 ديسمبر، فاتخذ داراً في هلبورن، انتقل إليها هو وأولاده، حيث انصرف-بعد أحد عشر عاماً صاخباً عصبياً مضطرباً، عن النشر، إلى الفترة الثانية من نظم الشعر، وهي فترة بالغة الروعة والعظمة. يتبع في الجزء الرابع المصدر: منتديات بنات فلسطين - من قسم: حـانة الآدباء والفـلاسفة والمفكريـن [,k ldgj,k [.x 3 |
| |
![]() | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
جون ميلتون جزء 1 | سفير القلعة | حـانة الآدباء والفـلاسفة والمفكريـن | 11 | 02-01-2015 04:55 AM |
جون ميلتون جزء2 | سفير القلعة | حـانة الآدباء والفـلاسفة والمفكريـن | 6 | 01-27-2015 05:23 PM |