![]() |
وتروي عائشة رضي الله عنها فتقول: "دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله، فقالوا: السام عليكم [6] قالت عائشة: ففهمتها؛ فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقال رسول الله: «مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، وفي رواية: «وإياك والعنف والفحش»، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله: «قد قلت: وعليكمٌ» [7]. فهذا رسول الله -وهو القائد الممَكَّن في المدينة- يدخل عليه مجموعة من اليهود، فيدعون عليه بالموت في وجهه وهم يتحايلون باستخدام لفظ (السَّام) القريب من كلمة (السلام)، بحيث لو واجههم رسول الله بذلك لقالوا: "كذبًا: لقد قلنا: السلام"، ورسول الله مع يقينه بما قالوا، ومع وجود عائشة رضي الله عنها في المجلس وسماعها لمثل ما سمع، إلا أنه لا يقيم عليهم حكمًا ما داموا مُنْكِرين، ولا يقول: شهادتي وشهادة عائشة رضي الله عنها أمام شهادتكم، بل يكتفي بأن يرد لهم الكلمة بأدب، فيقول: «وعليكم»، ولا يفعل مثلهم، ولا ينطق بلفظهم، بل إنه ينهى عائشة رضي الله عنها عن العنف والفحش، ويأمرها باتِّباع الرفق في المعاملة، حتى مع مَن يدعو عليك بالموت في وجهك! |
وأعجب من هذا موقفه مع (زيد بن سعنة) وكان من أحبار اليهود، قال زيد بن سعنة: "إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حِلمًا، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فخرج رسول الله من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدًا، وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث، وأنا أخشى -يا رسول الله- أن يخرجوا من الإسلام طمعًا كما دخلوا فيه طمعًا، فإن رأيت أن تُرسِل إليهم من يُغيثهم به فعلت، قال: فنظر رسول الله إلى رجل جانبه -أراه عمر- فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله..". |
قال زيد بن سعنة: "فدنوت إليه، فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا من حائط بني فلان إلى أجل كذا، وكذا؟ فقال: "«لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى أجل كذا وكذا، ولا أُسمي حائط بني فلان»"، قلت: نعم، فبايَعَنِي، فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجل وقال: «اعجل عليهم وأغثهم بها»". قال زيد بن سعنة: "فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، ونفر من أصحابه، فلما صلَّى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني -يا محمد- حقي؟ فوالله إنكم -يا بني عبد المطلب- قوم مُطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم! قال: ونظرتُ إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل به ما أرى؟! فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي هذا عنقك، ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: «إنَّا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة؛ اذهب به -يا عمر- فاقضه حقَّه، وزده عشرين صاعًا من تمر مكان ما رُعْتَهُ»". |
قال زيد: "فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدك مكان ما رُعْتُكَ، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحَبْر؟ قلت: نعم، الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتُها في وجه رسول الله حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: (يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا)، فقد اختبرتهما، فأُشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أن شطر مالي -فإني أكثرها مالاً- صدقة على أمة محمد، فقال عمر: أو على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله" [8]. |
فانظر -رحمك الله- إلى هذا اليهودي الذي يُخطِّط ويدبر لكي يستثير غضب رسول الله عامدًا متعمدًا؛ لكي يختبر صدق نبوته، فقام بعدة أمور الواحد منها يكفي لإثارة غضب أي إنسان، فقد ذهب -أولاً- لطلب الدَّيْن المستحق له قبل الموعد المحدد له، ثم أخذ -ثانيًا- بمجامع قميصه وردائه يجذبه..! وتخيل هذا الموقف والرسول في وسط أصحابه، وأمام الناس! ثم نظر إليه -ثالثًا- بوجه غليظ.. ثم ناداه -رابعًا- باسمه مجردًا من أي لقب ولا كنية، فقال: "ألا تقضيني يا محمد حقي؟"، ثم هو -خامسًا- يسبُّه ويَسُبُّ عائلته حين قال: "فوالله إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل"! |
فهذه أسباب خمسة فيها من التطاول والتعدي ما فيها، فإذا أضفت إلى كل هذا أن اليهودي يخاطب رأس المدينة المنورة وأعلى سلطة فيها، والرسول يقف آنذاك في وسط قوته وعزوته من المهاجرين والأنصار، إذا أضفت ذلك عرفت أن الجزاء المتوقع لمثل هذا المتطاول قد يكون في أعراف كثير من الناس هو القتل! وهو ما لم يكن غريبًا؛ فقد اقترحه عمر بن الخطاب الذي كان يحضر الواقعة.. فماذا فعل رسول الله..؟! لقد تلقى هذه الاعتداءات -ولا أقول بِتَفَهُّمٍ والتماس عذرٍ فقط- ولكن تلقاها بابتسامة وترحاب! لقد نظر الرسول -كما يروي زيد بن سعنة- إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رُعْتَه»! |
إن هذا السلوك السامي لا يفهمه عامة الملوك والسياسيين، بل لا يفهمه عموم الناس.. إن تواضع رسول الله جعله يقول لعمر: «إنه كان أحوج إلى نصيحة بحسن الأداء»! مع أنه لا يحتاج لهذه النصيحة؛ لأن موعد السداد لم يأتِ بعد، ولكنها محاولة لتسكين فؤاد اليهودي والتبسط معه.. وهوبعد ذلك يرى أنه من الرحمة أن يعوضه عن الخوف الذي لحقه من جَرَّاء تهديد عمر، فزاده عشرين صاعًا، وكل هذا دون انفعال أو تصلُّب، ودون أن يأخذ قسطًا من الوقت يفكر فيه، ويحسب العواقب والنتائج، إنه رد فعل طبيعي جدًا له، وهو غير متكلف فيه.. فهذه هي طبيعته الفطرية مع عموم الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وسواء أحسنوا العرض أم أساءوا في الطلب.. |
إن العالم -بشتى مرجعياته وعقائده- لَيَحتاج حقيقةً إلى هذا المعين الصافي من أخلاق النبوة، ويوم يعرف الناس هذه الأخلاق ستتغير -لا محالة- الكثير والكثير من أوضاع الأرض، وستُفتَح طرقٌ واسعة للخروج من كثير من المشكلات والأزمات. وليس أفضل لختام كلامنا من كلام العزيز الرحيم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. |
نماذج من علو همة النبي صلى الله عليه وسلم "الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، والقدوة الرائعة، في علو الهمة والشَّجَاعَة والإقدام، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس في الحرب، كان أكثر الناس شجاعة، وأعظمهم إقدامًا، وأعلاهم همة، وقد قاد صلوات الله عليه بنفسه خلال عشر سنين سبعًا وعشرين غزاة، وكان يتمنى أن يقوم بنفسه كل البعوث التي بعثها والسرايا التي سيرها، ولكن أقعده عن ذلك أنه كان لا يجد ما يزود به جميع أصحابه للخروج معه في كل بعث، وكان أكثرهم لا تطيب نفسه أن يقعد ورسول الله قد خرج إلى الجهاد. ("الوَطِيسُ: التَّنُّور وهو كناية عن شِدَّة الأمرِ واضْطِرام الحَرْب" النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير [1/447]). |
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» (رواه البخاري [2797]). فأية همة عالية أعلى من هذه الهمة النبوية" (الأخلاق الإسلامية، لعبد الرحمن الميداني [2/480]). |
الساعة الآن 09:51 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.