![]() |
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات مهاجرًا من مكة إلى المدينة مع الصديق رضي الله عنه، حاله حال الطريد -إن تكلمنا على ظاهر الحال- الذي يخشى عواقب صناديد قريش وما يدبرونه له من مكايد، ومَنْ في مثل حاله صلى الله عليه وسلم قد تحفه مشاعر التخفي والتحرز من الآخر والترصد والترقب لكل ما حوله، لكن هذا الوصف المفترض لم يكن يرافقه وتلك المشاعر لم تكن تنتابه صلى الله عليه وسلم رغم كونها أصعب اللحظات التي يمكن أن يلاقيها بشر في سفره، بل رأينا توكله على الله عز وجل حتى في حلب شاة أم معبد الهزيلة العجفاء. إن هذا الوصف يثبت لنا شرفه وجلاله وبهاءه صلى الله عليه وسلم، ويثبت لنا بديهة صفاته وانسيابها قلبا وقالبا، قولا وعملا بلا تكلف صلى الله عليه وسلم ليكون خلقه القرآن. |
علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع: صفتان عظيمتان قلما اجتمتعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: "كان إذا زال زال قَلِعا". المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب]. |
وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي]. (إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّ في صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب]. المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل. |
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه ذريع المشية: المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُ في المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديه تَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كان ذَرِيعَ المشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب]. المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية. |
(يخطو تَكَفِّيًا): المعنى اللغوي: يميل الى سمته وقصد مشيته؛ كما قال في الرواية الأخرى: "كأنما ينحط في صبب". المعنى الدلالي: وليس كما زعم كثيرون أي مال يمينًا وشمالاً، كما تكفأ السفينة. قال الأزهري: "هذا خطأ؛ لأن هذا صفة المختال". [صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته]. ويأتي وصفٌ درِّيٌ آخر يوضح لنا جزءًا من الصورة مفقودًا في قول هند بن أبي هالة رضي الله عنه "ويمشي هونا": المعنى اللغوي: في غريب الحديث قوله: "يخطو تكفيًا ويمشي هونًا" يريد أنه يميد إذا خطا، ويمشي في رفق غير مُخال، لا يضرب عطفا"، والهون بفتح الهاء: الرفق؛ قال الله جل وعز: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: من الآية 63] [غريب الحديث لابن قتيبة]. المعنى الدلالي: قبل أن يتدافع لأذهاننا صورة غير واقعية عن مشيه صلى الله عليه وسلم تأتي كلمة (هونًا) وتكسر حدة التكفي والاقتلاع السابقين وحتى لا يتبادر للذهن أنها مشية خيلاء أو أن بها شيئًا من المرح أو الزهو،كما قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا}[الإسراء: 37]. |
قال قتادة: "لا تمش في الأرض فخرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك"[تفسير الطبري]، وتأتي كلمة (هونًا) دليلا على تواضعه صلى الله عليه وسلم في مشيته وتطبيقا للآيتين الكريمتين اللتين ركزتا على صفة التواضع في المشي، ثم هي دلالة على تريثه وحلمه وأناته صلى الله عليه وسلم، واتزانه كذلك، ليكتمل المعنى الذي أوضحناه في العنوان: تواضع مع علو الهمة. |
حروب النبي مع المشركين علم جميعًا أن المشركين هم أكثر من آذى رسول الله والمسلمين، بل إنهم لم يكتفوا بالإيذاء فطردوا المسلمين من مكة التي هي وطنهم الذي وُلِدُوا وتَرَبَّوا فيه، واستولوا على ممتلكاتهم من الأموال والبيوت.. ومع هذا كله لم يفكر الرسول طوال إقامته في مكة أن يعتدي على أحد من المشركين، مع ما كان له من عِزَّة ومَنعَة؛ فهو من أرقى عائلة في مكة، ومن أَعَزِّ بطون قريش، وصاحب النسب والشرف، إلا أن له رسالةً ساميةً يريد أن يؤديها، فكان يتحمَّل الإيذاء إلى أبعد الحدود، ويحثُّ أصحابه على الصبر، وعدم مقابلة السيئة بمثلها، إلا أن قريشًا تمادت في غيِّها وضلالها وكبريائها، فكان لا بد من وقفات حازمة ترد للمسلمين بعض حقوقهم المسلوبة وأموالهم المنهوبة، وهذا من دون شك أمرٌ لا ينكره عاقل، ولا يعارضه صاحب رأي سديد. |
تأتي غزوة بدر الكبرى لتمثِّل أُولَى الصدامات الحقيقية بين المشركين والمسلمين، وإذا تدارسنا أسباب هذه المعركة في هدوء ورَوِيَّة لوجدنا أن المسلمين قد دُفِعُوا إليها دفعًا، وأنه لم يكن في نيِّتهم القتال، وإنما اضطرهم المشركون من قريش إليه.. فأهل مكة الكافرون هم الذين بدءوا بإيقاع الظلم على المسلمين، ولم يكن الظلم ظلمًا واحدًا، بل كان ظلمًا متعددًا مُرَكَّبًا، فظُلمٌ في الجسد بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحيانًا، وظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق واغتصابه بالقوة، وظلم في الديار بالطرد منها وأخذها، بل بيعها وأكل ثمنها، وظلم في النفس والسمعة بالسب والقذف وتشويه السمعة، وظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع. فماذا يفعل المسلمون لرفع هذا الظلم؟! لقد اضْطُرَّ المسلمون للهجرة وترك الديار والأموال والأهل وكل شيء، وكانت هجرتهم مرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ولم يتركهم كفار مكة يعيشون حياتهم في أمان هناك، بل طاردوهم وحاصروهم وراسلوا مشركي المدينة ويهودَها لاستئصال المسلمين تمامًا من على وجه الأرض! ماذا يجب أن يفعل المسلمون إزاء هذه الأفعال؟! هل ينبغي على المسلمين أن يسلِّموا رقابهم ورقاب أولادهم لسيوف قريش؟ أم كان عليهم أن يحملوا متاعهم وعيالهم إلى بلد آخر؟! إنَّ أي عاقل أو حُرٍّ لن يجد أمامه سبيلاً إلا المقاومة لدفع الشر، وقمع الفساد.. وهذا ما فعله المسلمون، ولمَّا لم تكن لهم طاقة بغزو مكة، واسترداد ثرواتهم المنهوبة فكَّروا في مهاجمة قوافل مكة التجارية والمارة على طريق المدينة، لقد كانت محاولة لرفع ولو جانبًا من الظلم الواقع على كواهلهم منذ سنوات. |
ثم إن هذه حالة حرب حقيقية، وليس هنا مجال لما يطعن به المستشرقون بأن المسلمين يُغِيرُون على الآمنين من قريش، فهذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة وبين دولة مكة الكافرة، وكلا الطرفين يستحل دم ومال الآخر، وكلا الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عُرْفٌ في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان وفي كل الأماكن، وليس من ابتكار المسلمين، كما أن الإسلام دين واقعي، يرد القوةَ بالقوة، ويُشهِرُ السيف في وجوه من أشهروا سيوفهم عليه. إنهم يلومون المسلمين؛ لأنهم هاجموا قوافل قريش التي استولت على أموالهم وديارهم! ألم يكن من الأجدر بهم أن يلوموا قريشًا التي سلبت المسلمين كل ما يملكون ظلمًا وعدوانًا! خرج المسلمون فعلاً لمهاجمة القافلة، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يتمكن أبو سفيان قائد قافلة قريش من الهرب بها، وأرسل إلى مكة يستدعي النجدة، وجاءت قريش بألف من الجنود لقتال المسلمين، وخرج على قيادة الجيش كل زعماء مكة تقريبًا، وجعلوا على رأس الجيش أبا جهل، فرعون هذه الأمة. وفي الطريق علم المشركون بنجاة قافلتهم وأموالهم؛ فرأى عدد منهم الرجوع، وعدم الانسياق إلى الحرب؛ وكان منهم عتبة بن ربيعة والأخنس بن شريق [1]، وآخرون..، لكن أبا جهل حمَّس الناس، وصمم على البقاء بالجيش عند بدر ثلاث ليالٍ؛ ينحرون الإبل، ويشربون الخمر، وتغني القيان حتى تظل العرب تهاب قريشًا. وكما رأينا كان بإمكان جيش قريش أن يرجع وألا يحارب، أو يدخل في قتال مع المسلمين خاصة بعد نجاة القافلة، ولكن إصرار بعض قادتها على الحرب هو الذي ورَّطهم في القتال، ودارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ الإسلام انتهت بهزيمة ساحقة للمشركين، وقَتلِ سبعين من قادتهم، وأَسْرِ سبعين آخرين، وتحصيل قدر من الغنائم عوَّض المسلمين عن بعض أموالهم المسلوبة. |
ورغم ما أصاب قريشًا في بدر؛ فإنها لم تتعظ، ولم تتراجع عن غيِّها، بل تمادت فأوقفت التصرف في قافلة أبي سفيان، التي أفلتت في بدر لتجهيز جيشٍ بأموالها لحرب المسلمين، ولم تكتفِ قريش بتجهيز الجيش من داخل مكة بل بدأت تستنفر القبائل المحيطة بها للمساعدة لها، وكونت قريش بالفعل جيشًا كبيرًا، وهنا اضطر المسلمون لخوض الحرب مرة أخرى؛ دفاعًا عن أنفسهم، وعن الدولة الإسلامية، فكانت معركة أُحُد.. جاءت قريش بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وكان قائدهم هو أبو سفيان، ومعه: صفوان ابن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وخالد بن الوليد، وغيرهم، وجهَّزوا كذلك ثلاثة آلاف بعير؛ ومائتي فرس، وسبعمائة درع [2]، وأشعلت قريش حربًا إعلامية ضخمة تحفِّز الناس على حرب المسلمين، وقاد هذه الحرب الإعلامية أبو عزة الجمحي [3]. وخرج المسلمون للمشركين في سبعمائة مقاتل، ودارت المعركة المشهورة التي انتهت بالمصاب الأليم الذي أصاب المسلمين، واستُشهِدَ من المسلمين سبعون على رأسهم حمزة بن عبد المطلب، وقامت قريش بالجريمة الشنعاء، إذ مثَّلت بجثث الشهداء المسلمين، مخالفةً بذلك كل الأعراف والقيم، ووضح للجميع مدى الحقد والكراهية التي يحملها المشركون في قلوبهم للمسلمين. |
الساعة الآن 06:10 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.